أستطيع أن أؤكد أن صفاء حجازى، رئيسة اتحاد الإذاعة والتليفزيون، تعلم أنها دخلت عِش الدبابير ولن تستطيع الخروج، تعلم أيضاً أن دخول ذلك العش ليس كالخروج منه، الأمر أصبح صعباً، كنت أتوقع أن السقطة التى حدثت أخيراً والمتعلقة ببث حديث قديم لرئيس الدولة هى فرصة للخروج من عِش الدبابير بالاستقالة، إلا أن الأحداث أكدت أن ذلك أيضاً أمر صعب، قد لا تستطيع بعد الاستقالة الخروج إلى المنزل مباشرة، قد يكون فى الطريق إلى المنزل نيابة عامة، أو نيابة أموال عامة، أو كسب غير مشروع، أو أى بلاغ من أىٍّ كان من الجماعة إياهم، الذين يتم استخدامهم لهذا الغرض.
المهم أن الست صفاء حجازى دخلت ذلك العش المشار إليه، لأول مرة، حين قررت وصممت وأصرت إصراراً على حق تليفزيون الدولة الرسمى فى بث مباريات الدورى العام لكرة القدم «حصرياً»، وإن كان ولابد فإن أى قناة أخرى يمكن أن تذيع من خلال ماسبيرو، ودخلت فى ذلك معركة من الوزن الثقيل مع أحد رجال الأعمال من الحجم الهشيم، من أصحاب القنوات إياها، ومازالت المعركة مستمرة حتى الآن، مع الأخذ فى الاعتبار أن القانون والدستور يؤازران تليفزيون الدولة، ناهيك عن تلك الإمكانيات التكنولوجية فى التغطية والبث، والتى لا تتوافر للقنوات الخاصة.
لم تكتف الست صفاء بذلك العش، راحت تعسعس على عشوش أخرى، ظنت أن بإمكانها الحق فى بث خُطَب رئيس الدولة أيضاً حصرياً، ثم ظنت أن بإمكانها أيضاً احتكار الحوارات، ثم راحت تتحدث عن الحق فى بث المحاكمات، معتبرة أن ما حدث فى محاكمة الرئيس مبارك كان اعتداء على حق تليفزيون الدولة، ثم كان آخر افتكاساتها سفريات الرئيس، وكيف لا يكون كذا، وكيف يعقل كذا، والحق والمستحق والذى منه!، وكلها أزمات مع أصحاب المال والأعمال.
الست صفاء من دلتا النيل، من طلخا، يعنى المنصورة، أو الدقهلية، يعنى فلاحة أو أقرب ما يكون، الكلام دايماً عن الحق والعدل وما يجب، كيف يمكن السماح لهذه القناة أو تلك من التى تدور حول سطوتها الشائعات الآن سيادياً، أن تحصل على أرشيف التليفزيون هكذا مجاناً، ابتزاز، أو بلطجة، أو عافية، أو سمِّه ما شئت، عِش دبابير آخر يضاف إلى السابقة، ناهيك عن أخرى مازال بعضها فى طَى الكتمان.
كل هذه المعارك والدولة ودن من طين وأخرى من عجين، مختفية بأجهزتها كما مسؤوليها، ومن ذا الذى يدخل فى صراع مع رجال الأعمال، ثم بعد ذلك من الذى يمكن أن يدخل فى صراع مع الأجهزة إياها؟! الست صفاء حملت كل الموضوعات على عاتقها بجدية، تصورت أو تخيلت أن هناك إرادة للإصلاح، انحازت إلى المواقف التى تخدم العمل، أو تعيد لأحد صروح الدولة هيبته، النتيجة كانت ذلك الذى يجرى، شُغل العصابات، خطط المافيا، ولِمَ لا؟ المال يمكن أن يفعل الكثير.
بكل وضوح كان يجب على صفاء حجازى، بعد أن رأت الأوضاع هكذا، إما أن توافق على ذلك الذى اعتاده تليفزيون ماسبيرو.. الخضوع، والخنوع، والبيع، والشراء، والصمت، والانبطاح، وعدم المواجهة، وإما الانسحاب من المشهد والعودة للمنصورة، حيث الناس الطيبون، حتى لو كانوا رجال أعمال، أو حتى رجال أجهزة، إلا أنها لم تختر هذه ولا تلك، قررت التحدى والمواجهة، فكان ما كان، فى سالف العصر والزمان، لأول مرة فى تاريخ الدولة المصرية، ذلك العبث الذى قد يتوقف رد الفعل نحوه على قدر من العبس، على الرغم من عِظَم ذلك الذى جرى وحدث.
المشكلة الحقيقية التى تعيشها مصر ليست فى تليفزيون ماسبيرو، ولا حتى التليفزيونات الأخرى، فالصحف الحكومية بها ما بها من الأخطاء الشنيعة بصفة يومية، إلا أن مشكلة التليفزيون تتمثل فى ذلك الهواء، أو البث المباشر الذى لا يصلح معه أى تصحيح حال وقوع الخطأ، أيضاً الأخطاء ليست فى الإعلام فقط، الأخطاء واضحة فى أداء الوزارات، كما كل المؤسسات، كما كل الأجهزة، ضعف الأداء أصبح حالة عامة، وإلا لما كنا وصلنا إلى ذلك الوضع، من انهيار غير مسبوق على كل الأصعدة.
يجب أن نعترف بأن كل المواقع الفاعلة فى الدولة قد شهدت تفريغاً ممنهجاً للكفاءات من كل المواقع، إن بحجة فلول، وإن بزعم إخوان، وإن للشبهة، وإن للخلاف فى الرأى، ما جعل من الصعب النهوض بهذه المواقع، كما من الصعب تعويض تلك الكفاءات، ناهيك فى هذا الصدد عن تلك الهجرة للعقول فى كل المجالات، نتيجة عوامل كثيرة، من بينها عدم الإحساس بالأمان، وتردى الحالة المعيشية، واعتلاء الرويبضة المراكز القيادية، دون رقيب أو حسيب.
صفاء حجازى، أيها السادة، مجرد نموذج لحالات كثيرة مشابهة، عانت ويعانى معها التليفزيون من مؤامرات الفساد، فى صور وأشكال عديدة، وأعتقد أن كل الذين ثابروا وتحملوا وعانوا وقاوموا قد أبدوا الندم فى نهاية الأمر على أنهم لم يستوعبوا الأمور مبكراً، إلا أن هذه الحالة التى بين أيدينا قد استوعبت مبكراً جداً، لكنها وجدت نفسها فى الموقف الأكثر تأزماً، وهو أن الاستقالة فى حد ذاتها نوعٌ من التمرد، أو بالعامية الدقهلاوية: «دخول الحَمّام مش زى خروجه»، هكذا قالوها قديماً، ويرددونها فى ماسبيرو حديثاً.