إن وعى الإنسان بذاته، ومعرفته بتراكم خبراته ومهاراته وقيمة نفسه عبر تاريخه لأمر شديد الأهمية فى اكتساب الإنسان للثبات النفسي، وفى مقدرته على اجتياز أى أزمات طارئة، خصوصا إذا كان هذا الإنسان جزءا من تجربة تاريخية وواقعية لها امتداد وعمق وثراء، فإن هذا المجموع التاريخى والبشرى الحافل له أثر كبير فى توزيع الشعور بالثقة والنجاح على كل فرد من أفراده. وأكبر نموذج يمثل هذا المعنى هو الحالة المصرية المتشعبة، والثرية، ذات الجذور العميقة، والتجربة الإنسانية التى اكتسبت خبرات ألوف السنين، من الإدارة، والإبداع، والعلوم الهندسية والرياضية، والتفنن المبدع فى المعمار والتشييد، والعقول العبقرية فى شتى ميادين المعرفة، وصناعة المؤسسات الكبيرة القادرة على الإنجاز، ومسيرة أنبياء الله الذين ساروا على هذه الأرض من إبراهيم عليه السلام إلى يعقوب، فيوسف، فموسى، فهارون، فعيسى وأمه الصديقة مريم، فسيدنا محمد فى خطواته المباركة على أرض سيناء فى عبوره عليها متوجها إلى بيت المقدس فى قصة الإسراء. ولقد تفردت بمصر بمقوماتها، ومكوناتها، ومعالمها، ومكانها الفريد، والحركة الحافلة للتاريخ، والتى تجرى على أرضها، وكل ذلك له أثر وانعكاس على نفسية الإنسان المصرى وشخصيته، حتى قال العبقرى جمال حمدان فى كتابه العظيم: (شخصية مصر): (لمصر أطول تاريخ سكانى معروف أو مسجل)، إلى أن يقول: (وذلك بحق يجعل مصر صاحبة أطول تاريخ تجربة سكانية فى العالم، بل معمل تجارب ديموغرافى تاريخي، ولكنه حي، سابق غير مسبوق، ولا مثيل له فى عالم أو علم السكان على الأرجح). إلى أن يقول: (بل قد لا نعدو الحقيقة إذا رجحنا أن مصر ربما كانت أكبر بلد منفرد من حيث السكان فى العالم القديم). وأعقب على ذلك فأقول: وهذه الكثرة أو الثروة السكانية الهائلة لمصر عبر تاريخها تعنى أنها غنية بكمية هائلة من العقول والخبرات والشخصيات والأطروحات، مما يمثل ثراء كبيرا، واتساعا فى الرؤية، وتضافرا للخبرة، وهذا من شأنه أن يصنع حركة للمجتمع، تزداد ثراء بمقدار الكثرة والثراء فى سكانها. كل ذلك مع ما تراقبه العقلية المصرية من ثقافة العالم، وعلومه، ومعارفه، وآدابه، وحركة الفكر فيه، فإذا بهذه الأرض المصرية الطاهرة، وثروتها البشرية، قد أضافت إلى هذا المكان تألقا وإبداعا، وانصهرت فصنعت شخصية مصرية متفردة. إنها شخصية قومية مصرية، متميزة إلى حد أو آخر، لها خصائصها، وملامحها، وسماتها، وقسماتها المحددة بدرجة أو بأخرى، والتى يمكن التعرف عليها وقياسها بقدر أو بآخر من الدقة. نحن إذن أمام رحلة وغوص فى مكونات مصر، وعقل مصر، وتاريخ مصر، والتراكم الحضارى الذى تبلورت به شخصية مصر وشخصية الإنسان المصري. ولن يستطيع أحد أن يعرف قيمة مصر على الحقيقة إلا من استعاد هذه الذاكرة، وفتح صفحات هذا التراكم، ورأى الأثر العميق والممتد والمنير الذى قدمته مصر إلى البشرية، وكيف أنها بؤرة مركزية شغلت الدنيا، وارتبطت بها أحداث التاريخ فى مختلف مراحله، وقدمت للإنسانية عقولا عبقرية فى نظم الإدارة، وفى علوم الهندسة والعمارة، وفى علوم الشرع الشريف، وفى الآداب والحكمة، وتركت بصمة لها فى أعماق آسيا، وفى قلب أوروبا، وفى العمق الإفريقى الكريم. قال الدكتور حسين مؤنس: (المصريون يقولون: «مصر أم الدنيا»، حقيقة كبرى، يقولونها دون أن يدركوا مغزاها، نعم، أم الدنيا، بل هى الدنيا، ولو عرف كل مصرى قدر مصر لما كفاه أن يعمل لها بيديه وأسنانه وعقله عشرين ساعة فى اليوم، بهذا فقط يكون المصرى جديرا بمصر).
وأعقب فأقول: هذا هو الأثر المباشر للوعى بالذات، ومعرفة قيمة الامتداد السابق والناجح للإنسان، حيث يثمر هذا مقدرة على استدامة النجاح، واستمراره، وإن استعادة الذاكرة على هذا النحو شديد الأهمية فى وعى الإنسان المصرى بذاته وكينونته، وفى إدراكه لقيمة نفسه، وفى مقدار ما وهبه الله من الخصائص والمواهب. وهذه المكونات قد تعرضت فى السنوات الأخيرة لشيء من الاهتزاز، وهبت عليها رياح التغيير، وبهتت بعض المعالم، وشهدنا بعض السلوكيات الغريبة، التى لا تتسق ولا تنسجم مع نفسية الإنسان المصرى وشخصيته، وهناك عدد من الكتابات والبحوث فى ذلك.
فوجب علينا إعادة التذكير بالمعالم الأصيلة، وإعادة ربط الإنسان بجذوره التى ظلت على مدى الأجيال حاضرة أمام عينيه، حتى يرجع المنبع المصرى الأصيل ليتدفق مرة أخرى فى وجدان المصريين جميعا.