تكتسب مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ71 التى عُقدت بنيويورك, للمرة الثالثة على التوالى, أهمية خاصة ليس فقط لأنها حدث دولى سنوى ضخم, ولكن لأنها أيضا مناسبة استثنائية لتلاقى زعماء العالم من خلال اللقاءات الثنائية التى تجرى على هامش تلك الاجتماعات فتكون فرصة لتنسيق المواقف أو إرسال رسائل سياسية فى قضايا بعينها, وبالتالى فهى من ناحية تعزز مكانة مصر الدولية, ومن ناحية أخرى تُعد تتويجا لنجاح السياسة الخارجية المصرية على مدى السنوات الماضية وانفتاحها غربا وشرقا, أى سواء على أوروبا- التى شهدت العديد من الجولات الرئاسية بما صاحبها من صفقات تجارية وعسكرية- أوعلى روسيا والصين حتى إن مصر دُعيت كمراقب لحضور قمة «العشرين» فى بكين نفس هذا الشهر, والتى تشكل واحدة من أكبر التجمعات الاقتصادية العالمية, وقبلها كان انتخابها لمقعد العضو غير الدائم فى مجلس الأمن, وكلها دلائل على قوة حضورها الدولى والاقليمى, أى أنها تجاوزت مسألة الاعتراف بـ30 يونيو, وبالتالى فإن هذه المشاركة هى لعرض رؤيتها حول مجمل قضايا المنطقة التى لم تختلف عن الدورتين السابقتين, وتنطلق من الربط بين جميع ملفات الصراع فى الشرق الأوسط وصولا لتسوية شاملة لأن فى ذلك معالجة لأزمات البطالة والفقر والتطرف, وكذلك بالنسبة للتصدى لظاهرة الارهاب التى تتطلب تعاونا متكاملا بين الدول, وهو ما يسرى على ضبط الهجرة غير الشرعية بما لها من تأثير بالغ على أمنى الأوسط والمتوسط,, أما عن دول الجوار التى تعتبر امتدادا للأمن القومى المصرى, فالأصل هو الدفاع عن كيان «الدولة» ووحدة أراضيها خاصة مع تزايد مخاطر التقسيم وتحديدا حالتى سوريا وليبيا كما جاء فى حديث الرئيس مع رؤساء تحرير الصحف القومية, بالاضافة إلى السعى لحل نهائى للقضية الفلسطينية كركن ثابت من السياسة المصرية.
لكن هذه الرؤية التى تبدو واضحة و«مثالية» تصطدم بواقع شديد التعقيد ملىء بالتناقضات وتضارب المصالح, وهو ما يخلق أمامها تحديات كبرى لأنها ببساطة لاتدور فى فراغ وفي مقدمتها، أولا, موقف الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وهى الأكثر تدخلا فى شئون الدول على مستوى العالم سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة, ولهذا فهى أيضا من أكثرها تبديلا فى سياساتها حتى وإن حافظت على استراتيجية ثابتة ترسم أهدافها العامة, وقد اتسمت فى عهد إدارة رئيسها الحالى باراك أوباما بكثير من الحذر والتردد وعدم الحسم خاصة مع دعوته لتقليل الانغماس فى الشرق الأوسط لصالح التوجه ناحية الشرق الأقصى. وبغض النظر عن التفاصيل فقد أدت هذه السياسة إلى إطالة أمد الصراعات وليس حلها بالطبع وانطبق ذلك على أهم حالتين موضعى اهتمام السياسة المصرية (سوريا وليبيا)، ففى الأولى اضطر إلى التعاون مع روسيا بعد طول تشدد ضد نظام الأسد, حتى أنه عقد معها أخيراً اتفاقاً غير معلن حول المستقبل السورى بعيدا عن الأطراف الاقليمية, وفى الأخرى لم يستطع توفير البديل القادر على تحقيق الاستقرار وبقيت موزعة بين سلطتين فى شرق البلاد وغربها لكل منها ميلشياتها المسلحة ولم تفلح حكومة «الوفاق» بقيادة فائز السراج, التى تلقى دعما أمريكيا وأوروبيا ورعاية كاملة من الأمم المتحدة, فى بسط كامل سيطرتها على الدولة بل ودخلت أخيرا فى صراع مع قوات اللواء خليفة حفتر الذى رقى الي درجة مشير والمدعوم من مصرللسيطرة على آبار النفط وتأمينها. ورغم أن أوباما فى نهاية ولايته الا أنه يصعب انتظار تغيير فى السياسة الخارجية الأمريكية حال فوز هيلارى كلينتون التى ستكون ولايتها بمثابة فترة رئاسة ثالثة له لقربهما الشديد, أما فى حالة فوز منافسها دونالد ترامب فلن يكون من السهل أيضا تحديد معالم واضحة لأى تغيير مقبل, إذ أنه يعبر عن نزعة تمردية إزاء السياسات الحالية بأكثر ما يعبر عن بديل واضح.
ثانيا, التقارب الأمريكى الروسى الحالى, وهو -بعكس حقبة الحرب الباردة- يحكمه التنافس لا الصراع الذى يقود الى صدام حتمى أو حرب مباشرة, وكلا من طرفيه (واشنطن وموسكو) يفضل التعامل مع كل دولة على حده أو الارتكاز على محور بعينه تأمينا لسياساته, أى ضد المنطق المصرى الرافض لسياسة المحاور, وبالتالى يستحيل هنا توقع فرض رؤية موحدة تتبناها جميع الأطراف, بل وهذا ما يجعل النظام الدولى مفتقدا لقواعد ثابتة أو مستقرة, فالأعداء قد يصبحون فجأة أصدقاء والعكس صحيح أيضا, أو متعاونين فى ملف ومتصارعين فى آخر.
ثالثا, استمرار الاستقطاب المذهبى الحاد بين قطبى السنة والشيعة فى المنطقة, السعودية وايران, ما ينجم عنه من انقسامات وحروب أهلية وبالوكالة, وهو مناخ يزيد ولا شك من انتشار الإرهاب والتنظيمات المسلحة, بمعنى أن هذا الصراع الرئيسى هو نفسه صراع مفتوح.
رابعا, ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية وأغلبها من العرب المسلمين وتحديدا من سوريا وحظيت باهتمام لافت فى هذه الدورة, فقد تتناقص-عكس المتوقع- إلتزامات أوروبا حيالها فى ظل صعود التيارات «اليمينية» هناك (والتى يعبر عنها ترامب بدوره فى أمريكا) وتزايد الانتقادات للمستشارة الألمانية ميركل بسبب استضافتها العدد الأكبر منهم, ثم إقرار برلمان بلادها مجموعة من التشريعات لتقييدها.
خامسا, بخصوص القضية الفلسطينية, فليس هناك ما يشير إلى اضطرار إسرائيل التعجيل بالمفاوضات إزاءها بحكم تراجع الأولويات الاقليمية وأيضا بسبب ما يُتداول فى دوائرها من ربط الضفة الغربية بالأردن وغزة بمصر كحل نهائى مما يُعقّد مواقف الأطراف المختلفة. لذا, فتحقيق الرؤية المصرية قد يتطلب جهدا مضاعفا لأنه ليس هناك إلى الآن نظام اقليمى مستقر بل شبه فوضى كاملة.