قال لي نجيب محفوظ إن عنايته بالشخصيات الهامشية. والثانوية لا تقل عن عنايته بالشخصيات الرئيسية: أم حنفي بائعة الدوم. بائع الصحف. جرسون القهوة. الجندي جوني. شيخ الحارة.. إنه يحرص علي أن تكون ضمن ملفات الشخصيات الروائية. تتناثر في سياق العمل بما يضيف إليه. ولأن أم مريم مثلت اضافة غير محسوبة للأحداث. فقط اسقطها الفنان بالموت!.
بالاضافة إلي النوتة الصغيرة التي كان يضعها نجيب محفوظ في الجيب العلوي للجاكت. فإنه كان يحرص أن يضع ملفات لشخصيات الرواية. وتطورات أحداثها. متي تظهر الشخصيات؟ ومتي تختفي؟ وإلي أي حد يظل الفنان ممسكاً بخيوط العمل. لا يفلته إلا وفق إرادة مسيطرة. هي إرادة الفنان.. وإذا كان نجيب محفوظ قد حدد سن الثامنة عشرة موعداً لوفاة نعيمة في ثلاثية "بين القصرين" فإن سواها من الشخصيات خضعت لذلك التنظيم الصارم الذي وضعه الفنان مثل ظهور الشيخ متولي عبدالصمد في بداية الثلاثية تخاطب أحمد عبدالجواد ــ بجرأة تميلها الشيخوخة ــ وظهور الشيخ في نهاية الرواية. يسأل عن الميت الذي تشيعه الجنازة: من هو؟ وكان ذلك الرجل هو أحمد عبدالجواد. ومصادفات اخري. متعمدة بعضها يبلغ حد السخف. مثل وفاة أم مريم بأمر السماء.. وظني أن الأمر كان قد اتخذه الفنان حتي لا تشكل المرأة نتوءاً في مسار الرواية استلهاماً ــ ربما ــ من طريقة يوسف وهبي في التخلص من شخصياته التي أدت أدوارها. وقبل أن يبدأ نجيب محفوظ في اعداد ملفات الثلاثية. فإني أجده قد تنقل ــ بعيني الفنان ــ في شوارع الحي وميادينه وحواريه وأزقته وأقبيته. وبين بيوته وسماجده وزواياه ودكاكينه ومقاهيه. يتأمل كل شئ بدقة. يبحث عن المعالم التي ستكون قواماً لروايته.
لأن بيت القصرين كان يطل علي شارعين هما بين القصرين والنحاسين. فقد اختار قصر بشتاك لسكني أسرة أحمد عبدالجواد. تطل أمينة من مشربيته علي الشارعين المتوازيين. يفصل بينهما سبيل. وثمة بائع العصير والمقهي ونداءات الجرسون والباعة.
هل كان ذلك هو السبب في عرض صلاح أبوسيف علي محفوظ أن يكتب للسينما؟.
قال أبوسيف إن اختياره لمحفوظ. وحرصه أن يدرس له فن السيناريو مبعثه لغة السينما التي كانت تعبر عنها روايات محفوظ. وبالذات في روايات الواقعية الطبيعية: خان الخليلي. القاهرة الجديدة. زقاق المدق. قدمت أسرة عاكف إلي خان الخليلي. فراراً من غارات الإنجليز علي حي السكاكيني وغادرته بعد أن مات الابن رشدي. وعرف أبواه وشقيقه الأكبر أن الحذر لا ينجي من قدر. وكانت المقدمة الموجزة في أولي صفحات عن زقاق المدق. أشبه برفع الستار عن ذلك المكان المتميز في القاهرة الفاطمية. وتتوالي الأحداث بحيث يشكل مصرع عباس الحلو نهايتها القاسية. ويسدل الستار بعد أن يودع الفنان الزقاق بكلمات مؤثرة تعيدنا إلي كلمات التقديم وبدأت "بداية ونهاية" بموت الأب. وانتهت بدفع نفيسة إلي الانتحار. أما أمينة فقد طالعتنا في أولي صفحات الثلاثية. ثم اختتمت الصفحات بالمرأة نفسها. دورها المهم تخلل الأحداث ــ علي نحو وآخر ــ حتي اللحظة التي تهيأ فيها ياسين لشراء ملابس المولود. بينما عني كمال بشراء كرافت. ترقباً لرحيل الأم. بعد أن أدت دورها في الحفاظ علي تماسك الأسرة.
المثل لا أقصره علي محفوظ. ثمة أدباء عالميون يحرصون علي التصور المسبق من خلال ملفات. تتضمن الشخصيات والأحداث فيأتي العمل. في النهاية معبراً عن معان أو دلالات محددة. ربما تمثل رواية "بداية ونهاية" مغايرة للإعداد المسبق الذي ألزم به الفنان نفسه في بقية رواياته. أعد الملفات بالشخصيات: الأم وحسن وحسين وحسنين ونفيسة ومحمد أفندي فريد وبهية وأبن البقال والرجل الثري وناظر مدرسة طنطا وغيرهم. وتصور الفنان للرواية نهاية كوميدية تخالف النهايات التي ودعتنا بها خان الخليلي والقاهرة الجديدة وزقاق المدق.. لكن أحداث الرواية مضت في مسار يصعب تغييره. اختطت مساراً مأساوياً انتهي إلي دفع حسنين لنفيسه كي تلقي بنفسها في النهر وتبعها بالقول: فليرحمنا الله!.
يصعب القول إن كان ألقي بنفسه في النهر ايضا أو أن أنانيته المسرفة منعته من إيذاء حياته!.