ما الذى يجعل الرقيب، أى رقيب، يختار معنى بعينه من بين معانٍ عديدة يحتملها لفظ معين، لكى يتوقف عنده ويفترض أن ذهن المتلقى سوف ينصرف إليه، رغم أن السياق الذى استخدم فيه اللفظ يجعل المعنى بعيدا كل البعد عما توقف عنده الرقيب؟، هل السبب فى ذلك هو أن المعنى الذى اختاره الرقيب قد شاع استعماله على نحو لم يلتفت إليه المؤلف؟ أم أن الرقيب يقرأ فى الحقيقة ما يدور فى ذهنه هو أى ذهن الرقيب ولا يقرأ ما هو موجود فى النص ولا فى السياق المحيط بالنص؟ أم أن السبب فى النهاية يتمثل فى أن الرقيب باعتباره موظفا، يخاف على وظيفته، ويتحسب لأسوأ الاحتمالات، حتى لو كان الاحتمال الأسوأ هو الاحتمال الأوهى والأبعد؟.. لكى نكون أكثر تحديد فإن الذى دفعنى إلى طرح السؤال السابق هو ما أثير مؤخرا حول اعتراض الرقابة على عنوان فيلم «البس عشان خارجين» وإصرارها على حذف كلمة البس من العنوان الذى أصبح بعد الحذف «عشان خارجين»...«البس» كما نعلم هو فعل الأمر من الفعل الماضى: لبس، ومعناه «ارتدى» ويستخدم عادة عندما يطلب شخص من آخر أن يتهيأ للخروج مصطحبا إياه.. لكنه قد يستخدم أيضا فى العامية المصرية بمعنى تورط فى الاندفاع إلى حد الاصطدام (لبس فى الحيط.. مثلا)، كذلك فإن الفعل يعنى أيضا فى العامية تحمل وزرا جنائيا (لبس قضية).. أخيرا فإن الفعل قد يعنى معنى بذيئا لا داعى لذكره وإن كان ذلك المعنى هو الذى توقف عنده الرقيب على الأرجح وأصر على حذف الكلمة من العنوان تخوفا منه، وقد ذكرنى هذا بموقف آخر مشابه رواه لنا الأستاذ عبدالمنعم شميس الذى تزاملت معه فى مجلس إدارة الجمعية الأدبية المصرية والذى يحزننى أنه قد رحل عن عالمنا قبل أن يسجل كل ما كانت تحفل به ذاكرته من خبايا وكواليس عالم الفكر والفن والأدب، التى أتاحتها له علاقاته الواسعة كأديب مرموق، بالإضافة إلى موقعه كرئيس لمصلحة الاستعلامات (الهيئة العامة فيما بعد)، أما الواقعة التى رواها فهى أن الرقيب اعترض على أغنية: «بلبل حيران» التى كتبها أمير الشعراء أحمد شوقى للمطرب محمد عبدالوهاب!، فما كان من شوقى إلا أن توجه غاضبا إلى مكتب «راسم بك» مدير عام الرقابة حينذاك، مصطحبا معه عبدالوهاب الذى كان قد أبلغه بالاعتراض وأراه نص الأغنية المكتوب بخطه وعليه ختم: «لا يصلح» وتحت الختم توقيع الرقيب المختص!!..وعندما عرف راسم بك ذلك أبدى انزعاجه الشديد وقام باستدعاء الرقيب المختص إلى مكتبه لكى يتعرف على السبب الذى دعاه إلى الاعتراض على أغنية كتبها شوقى بك! وهو من هو!، وأجاب الرقيب منحنيا أمام المدير العام وفى حضرة الشاعر العظيم والمطرب الشهير: تصور جنابك عبدالوهاب بيغنى أمام الجمهور وبيقول: «فنن يشيله..فنن يحطه»..افرض واحد من الصالة راح قايل له: «خليه يحطه تانى».. مش حيبقى موقف محرج؟!!..عندئذ شخط فيه راسم بك قائلا امشى يا رقيب يا (...) ما بين القوسين صفة بذيئة!!..والواقع أنه لا يوجد فارق كبير بين الرقابة التى كانت منذ تسعين عاما تعترض على الفعل: «حط»، ومشتقاته، والرقابة التى تعترض الآن على: «لبس» ومشتقاته، فكلا الرقابتين تعتبران: «لبس» من إخوة: «حط»، وهو أمر لا نستغربه، لأن الرقابتين كليهما وإن كان الفاصل بينهما تسعين عاما، تنتميان إلى عصر واحد هو عصر القراءة المنحطة لأى نص بحيث يصبح معها غالبا نصا منحطا، حتى لو لم يكن فى ذهن مؤلفه كذلك.