قبل عامين كانت تحويلات المصريين بالخارج قد تراجعت بنسبة 20% لأسباب سياسية، بعد مُضى عام آخر وصلت النسبة إلى نحو 50% لأسباب تتعلق بفقدان الثقة فى الاقتصاد، مع ارتفاع عجز الموازنة، والتضخم، والديون، والبطالة، وارتفاع الأسعار، وما واكب ذلك من إجراءات بنكية أثارت مخاوف المودعين بصفة عامة، الآن تراجعت هذه النسبة إلى ما يزيد على 90%، لسبب آخر يُضاف إلى السببين المشار إليهما، وهو ذلك الفارق الكبير بين سعر العملات فى الجهاز المصرفى، والسعر خارجه.
دراسة صحفية كويتية، أشارت إلى أن تحويلات المصريين هناك تراجعت بنسبة 97.5%، الكويت هى مجرد مؤشر لغيرها من دول الخليج، التى يرد منها الجزء الأكبر من التحويلات، حسبة بسيطة سوف نكتشف معها أن العامل المصرى بالكويت سوف يخسر 12 ألف جنيه مصرى، فى حالة تحويل 1000 دينار كويتى عن طريق المصارف الرسمية، نتيجة الفارق الكبير فى السعر الرسمى للعملة، عنه بالسوق السوداء.
لا يمكن لأحد فى ظل هذه المقارنة اتهام العمالة المصرية بعدم الوطنية، أو عدم الإحساس بالمسؤولية أبداً، المواطن يقوم بتحويل أمواله بالدولار، إلا أنه قد يصطدم هنا بإجراءات تُحتم عليه تسلمها بالجنيه، أيضاً عليه أن يتسلمها بالسعر الرسمى متحملاً خسارة كبيرة، فى الوقت نفسه لن يستطيع سحب ما يريد من أموال وقتما يشاء، إذا وضعنا كل ذلك بجانب ما يُشاع حول المصادرة والتأميم والإفلاس، وغير ذلك من مصطلحات كئيبة، لا يمكن لأحد أن يأمن على أمواله، مهما كان مؤمِناً بالنظام السياسى، أو منحازاً له، وهو ما يؤكد أن الأمر قد خرج من حيّز الموقف السياسى، إلى الموقف الاجتماعى، انطلاقاً من قاعدة «عُض قلبى ولا تعض رغيفى».
تحويلات المصريين بالخارج كانت قد أصبحت المورد الأول للعملة الأجنبية منذ ما قبل 25 يناير 2011، وما بعدها مباشرة، فقد بلغت نحو عشرة مليارات دولار فى 2010، ثم أخذ هذا الرقم فى الارتفاع، إلى أن تضاعف إلى نحو 20 مليار دولار خلال 2014/2013، ثم تهاوى إلى ما دون 15 ملياراً فى 2015، ثم أصبح الموقف فى 2016 يُرثى له، نتيجة ذلك التدنى فى قيمة العملة المحلية، ليس ذلك فقط، بل نتيجة ذلك الفارق الكبير بين الأسعار الرسمية، والسوق الموازية، والتى بلغ الفارق فيها نحو 50%.
لدينا فى الخارج نحو ثمانية ملايين مواطن، نصفهم فى دول الخليج، والنصف الآخر ينتشرون فى قارات العالم، أزعم أن هؤلاء وأولئك الأكثر ارتباطاً بوطنهم وقلقاً عليه، على الرغم من الفارق الزمانى والمكانى، هكذا حال المغتربين دائماً فى كل بلاد الدنيا، والدليل على ذلك هو أن رقم التحويلات قد تضاعف يوماً ما، بمجرد أن شعروا بحاجة الوطن إليهم، إلا أنه يبدو أننا لم نكن عند حُسن الظن، لم نكن عند مستوى طموحاتهم، مما جعلهم يشعرون بالقلق، ليس ذلك فقط، بل وصل الأمر إلى حد فقدان الثقة.
الإجراءات المصرفية، كما الاقتصادية، كما السياسية بصفة عامة، بدا أنها مترابطة إلى الحد الذى لا يمكن تجاهله، وهو ما يؤكد أن إجراءات بناء، أو إعادة بناء الثقة، هى أول ما يجب أن تقوم به الدولة على المستوى الرسمى، إن هى أرادت استعادة هذه الأموال من جديد، فلن يكون أى حديث عن المواطنة والقومية والوطنية ذا جدوى أبداً فى ظل سياسات غير مقنعة، أو غير فاعلة على أرض الواقع، تنهار معها قيمة العملة، كما يتهاوى معها الاقتصاد، فى ظل عدم وجود بوادر تشير إلى أن الإصلاح قادم، أو المستقبل أفضل.
إذا كانت موارد العملة الصعبة لدينا أساساً قد تراجعت إلى حد كبير، نتيجة أحداث بعضها عالمى، مثل تراجع حجم التجارة الدولية، فيما يتعلق بقناة السويس، وبعضها من صنع أيدينا إلى حد كبير، مثل تراجع معدلات السياحة الخارجية، وبعضها الآخر نتيجة البيروقراطية المتوطنة، مما أثر بدوره على الاستثمارات الخارجية، فإن الأمر المتعلق بتحويلات مواطنينا يجب أن يكون التعامل معه آنياً، من خلال تنفيذ مطالبهم فى هذا الشأن، والتى لا تعدو عن كونها الإحساس بالأمن والأمان، فيما يتعلق بأموالهم وممتلكاتهم، وهى أبسط ما يمكن أن ينشده أى إنسان من وطنه أو حكومته.
المشكلة أيها السادة واضحة بكافة أبعادها، لن تحتاج أبداً إلى إرسال لجان عمالية، ووفود وزارية إلى الخارج، مثلما كان متبعاً فى الماضى، بحجة الاستماع إلى هؤلاء أو أولئك، كل ما هو مطلوب أن تكون هناك إرادة الحل، إرادة اتخاذ القرار، الذى يسفر فى النهاية عن توحيد السعر الرسمى للعملة، ما بين البنوك وشركات الصرافة، بما تختفى معه السوق السوداء، وغير ذلك من إجراءات بنكية واقتصادية، يشعر معها المواطن فى الداخل والخارج على السواء بأننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح، فلم يعد جائزاً بأى حال استمرار هذه الغيبوبة أكثر من ذلك، إلا إذا كان ذلك مقصوداً فى حد ذاته.