المصرى اليوم
فاطمة ناعوت
العلاقمة.. قرية مصرية جميلة
وأنا أكتب عن تلك القرية الصغيرة (العلاقمة)، أعلم أن كلامى ينطبق على العديد والعديد من قرى مصر الجميلة، التى لم يسمح أهلُها بأن يضربها فيروس الطائفية القاتل، لأنهم واعون أصحاءُ القلوب أنقياءُ الروح، لم يقبلوا أن تُدنِّس قلوبَهم أدرانُ الفتن، أو يلوِّث أرواحَهم ميكروبُ البغضاء.

هى إحدى القرى التابعة لمركز «ههيا» محافظة الشرقية بمصر. ربما كل ما يردنا عنها من أخبار أنها غرقت فى مياه الصرف، وأن أهلها يعانون البؤس بسبب ابتزاز أصحاب الكسّاحات الذين يوقفون العمل لرفع أسعار النقل وفرض إتاوات فى ظل إهمال الحكومة عن الإشراف والمتابعة، ما يتسبب فى غرق بيوت القرية فى مياه الصرف، وما يتبع ذلك من أمراض وأوبئة، خاصة أن سائقى الكسّاحات يلقون الصرف فى بحر فاقوس، أحد فروع النيل وأهم روافد الريّ الزراعىّ بشرق الدلتا، وغير ذلك من الأخبار التعسة، التى تعانى منها معظم قرى مصر ونجوعها. لكن ذلك لا يرسم الصورة كاملة، بالنسبة لتلك القرية.

الزاوية المشرقةُ من الصورة، رسمها أحدُ القراء المسيحيين. المهندس: عادل نصحى إبراهيم إلياس، حكى لى عن طفولته الدافئة وسط أهل القرية المسلمين، وعن منزلهم الذى لم يخلُ يومًا من أفراد أسرتيْ الحاج على والحاج عبده، الذين كانوا يتسابقون فى قولهم: أنا أبوك وأولادى إخوتك، وأنا أمّك وأجدادُنا هم أجدادك. قصّ علىّ مراسم العزاء الأسطورى يوم وفاة والده حيث كان الشيخ يقرأ ربعًا من القرآن الكريم، يتلوه القسّ يُلقى عِظة من عظات السيد المسيح عليه السلام. نشأ أطفالُ القرية فى مناخ أسرىّ هادئ، حيث جميعُ الأمهات والآباء، مسلمات ومسلمين مسيحيات ومسيحيين، هنّ أمهاتُ الجميع وآباؤهم، دون طائفية تقتل فى الطفل نبتة المحبة وتزرع فى برعم القلب الغضّ أدرانَ البغضاء. وكبُر الأطفالُ وصاروا أطباء ومهندسين وتجّارًا، لكن المحبة لم تفتُر بينهم، نقلوها بدورهم لأبنائهم وأحفادهم حتى الجيل الثامن، مثل ميراث مقدّس لا يجوز التفريط فيه. يقول المهندس نُصحى إنه محظوظ لأن له عشراتِ الأمهات وعشراتِ الآباء، شأنه شأن كل أبناء تلك القرية الجميلة. لم يسمع فى حياته كلمة «مسيحى ومسلم». فى سرادقات العزاء، يحضر الشيخ «صلاح الشيلاوى» مقرئ البلدة، فى صحبة القس أو الأسقف، لكى يُصلّيا معًا على الجثمان، فيتحول السرادقُ إلى ساحة مسجد وكنيسة. وإذا مرِض طفلٌ ذهبوا به إلى الست «أم إلياس» المشهود لها بالبركة، فيهدأ قلبُ الأم حتى يأتى الطبيب.

عمدةُ القرية الحاج «أحمد قورة»، المشهود له بالاستنارة والوعى الرفيع، هو ابن عم «د. فاروق قورة»، أحد أكبر أساتذة المخ والأعصاب بمصر، كثيرًا ما يردد لأصدقائه المسيحيين: «أنا لو هاسيب العمادة، لن أتركها إلا لأحدكم». وهو يعلم أن هذا لا يجوز، للأسف، ولكنه لونٌ من التوقير والتبجيل لرموز القرية المسيحيين. أخبرنى المهندس نصحى الذى يقطن مدينة الزقازيق، أنه فى أوقات غياب الانضباط الأمنى التى مرّت بمصر أثناء الثورة، كان يلجأ إلى تلك القرية ليحتمى بها مع أسرته بين أبناء القرية المسلمين، عائلته الكبيرة.

لماذا أكتبُ عن تلك القرية؟ لأننى أريد أن أشدّ على يدى قائلة: ها هو ما تحلُمين به، واقعٌ وحادثٌ فى وطنك، فقط لا يعرفه الناسُ لأن الأخبار التعسة هى الأعلى صوتًا، بينما الجمالُ دائمًا هادئ النبرة لا يلتفت إليه أحد. حنجرةُ القبح والطائفية والاقتتال صاخبةٌ جهورة تثير الذعرَ والضجيج فيسمعها القاصى والدانى، فيما حنجرةُ المحبة والسلام هادئة وديعة غير مشغولة بالإعلان عن نفسها. لهذا نُعلن عنها لكى يحذو الناسُ حذوَها.

هل أقترح على الحكومة المصرية أن تكافئ قرية العلاقمة، وما شابهها من قرى مصرية جميلة بأن تُحلّ فورًا مشاكلها الحيوية من صرف ومياه وكهرباء وما إلى ذلك، حتى تكون الحياةُ الكريمة، (التى هى بالأساس حقٌّ لكل مواطن مصرى)، مكافأةً عادلة للمحبة التى ينهجها أهلها؟ ربما تغارُ القرى الطائفيةُ من تلك القرى الطيبة، وتنبذ الطائفية القاتلة، فيعمُّ السلامُ وتسود المحبةُ بين أبناء مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف