جمال سلطان
الأسئلة الغائبة عن كارثة مركب رشيد الغارقة
ما حدث في مركب رشيد الغارقة والتي أسفرت عن كارثة إنسانية جديدة بحجم مائة وسبعين قتيلا ماتوا غرقا حتى الآن في محاولة للهجرة غير الشرعية ، وحيث من المتوقع أن يزيد العدد بعد أن أعلن مسئولون أنه من شبه المحال أن يظل أحياء من الباقين حتى الآن ، أي أننا بانتظار أرقام صادمة أخرى عن عدد الضحايا ، هذه المركب لم تكن الأولى ، ولكنها تمثل علامة فارقة نظرا لحجم الركاب وحجم الضحايا أيضا ، فقد كان على المركب حوالي أربعمائة وخمسون شخصا ، أغلبهم مواطنون مصريون ، والباقي من دول أفريقية متنوعة ، وقد اهتمت السلطات الرسمية بالإعلان عن جهود الإنقاذ وأرقام الضحايا لحظة بلحظة ، غير أن هناك الكثير من التساؤلات التي تشغل بال الرأي العام ، وتشغل مواقع التواصل الاجتماعي ما زالت حائرة بلا إجابة ، رغم أن معظمها أسئلة منطقية للغاية وبديهية . المركب التي غرقت كانت على مسافة ستة وثلاثين كيلو متر من الشواطئ المصرية ، وهذا يطرح تساؤلا عن قدرة مركب متواضع الإمكانيات أو حتى كبير الإمكانيات على أن يغادر السواحل المصرية خلسة وبهدوء وسهولة ويظل يمخر عباب البحر كل هذه المسافة دون أن يكتشفه أحد أو ينتبه له أحد ، ولولا أنه غرق لما عرفنا بالقصة من بدايتها ، هل السواحل المصرية بالفعل سداح مداح كما يقول البعض ، أم أن ما وقع هو تقصير من بعض الجهات ، وهل وقع اختراق وتواطؤ من بعض الموظفين ، فالشواطئ المصرية تخضع لرقابة صارمة من خفر السواحل وجهازها الأمني ، سواء من داخل المياه عبر سفن ولنشات الرقابة والتفتيش أو من مراكز السيطرة والتحكم بأجهزتها الحديثة على الشاطئ ، فهل هناك عجز في التجهيزات يسمح لمركب مثل هذه أن تغادر السواحل خفية ودون أن يراها أحد أو يلحظ تحركها أحد أو ترصدها أي رادارات بحرية ، خاصة إذا تذكرنا أن هذه ليست العملية الأولى وإنما سبقتها عمليات أخرى ، لدرجة أن الأمم المتحدة تقدر نسبة الهجرات غير الشرعية المنطلقة من مصر إلى أوربا عبر المتوسط بأنها تصل إلى عشرة في المائة من إجمالي الهجرات ، وبطبيعة الحال تتصدر ليبيا المشهد ، ولكن ليبيا تشهد حالة انفلات أمني وعسكري وغياب الدولة وفوضى الميليشيات وضعف السيطرة على الشواطئ ، ولا أظن أن مصر تعيش مثل هذه الأجواء بحيث نلتمس العذر لهذه النسبة الكبيرة من الهجرات . المركب حملت أربعمائة وخمسين شخصا ، أغلبهم مصريون كما قدمت ، ومافيا التهريب معروفة بالأسماء لدى المواطنين العاديين والوسطاء معروفون ، فهل يعرفهم الناس العاديون ولا تعرفهم أجهزة الأمن الضخمة والمتعددة في البلد ، مدنية وغير مدنية ، هل هذا يعقل ، ثم إن هؤلاء السماسرة يجوبون القرى والعزب والكفور والمقاهي ويتفاوضون مع الشباب ومع الأسر والعائلات على الرحلة وعلى السعر وكل التفاصيل ، ثم يرتبون معهم خطوات التحرك بالتفصيل على مدار أيام وربما أسابيع ، أربعمائة شخص يتفاوضون مع السماسرة على هجرة غير شرعية من دلتا مصر المأهولة ونريد إقناع العالم بأن هذا تم خلسة ودون معرفة أجهزة الدولة ورقابتها ، وإذا كانت المراكب تغادر مصر بمن تشاء وقتما تشاء وتعود بمن تشاء ، سداح مداح ، دون أن يدري أحد ، فهل يمكن أن نطمئن إلى عدم دخول كوادر إرهابية لارتكاب جرائم مروعة في البلاد أو تهريب أسلحة وذخائر أو هروب إرهابيين بعد ارتكابهم الأعمال الإرهابية دون أن تصل إليهم يد العدالة ، أو على الأقل هل يمكن أن نطمئن إلى منع تهريب المخدرات إلى البلاد ، طالما أن الأمر بهذه السهولة ، هل هذا يعقل ، وهل هذه تساؤلات لا تستحق إجابة أو توضيح من الدولة للرأي العام حتى يطمئن إلى أن هناك "دولة" تفرض سيطرتها على سواحل البلاد وتؤمنها تأمينها كاملا . لقد قال أكثر من شاب من الذين نجوا من الكارثة بأنهم كانوا يدركون أنها مخاطرة وأن الموت احتمال قائم لها ، ومع ذلك أصروا على المخاطرة ، وهي إشارة بالغة الخطورة على وجود آلاف الشبان في مصر الآن تستوي عندهم فرصة الحياة والموت ، وهذه في التحليل الاجتماعي والسياسي والأمني ظواهر شديدة الخطورة ، بل مرعبة ، كما لوحظ أن بعض هؤلاء حملوا معهم نساءهم وأطفالهم ، وهو حالة من اليأس ، وصلت بالبعض إلى اعتقاد أنه يموت في وطنه فعليا هو وأولاده ببطء ، فقرا وجوعا ومرضا وديونا وبؤسا في الحياة ، وأنه طالما يموت ، فلماذا لا يخاطر في رحلة موت ، إن خرج من مصر بها فقد نجا منه ، وفتحت له أبواب الحياة ، وإن غرق غرقوا جميعا فلا يأسى على زوجة ترمل أو طفل ييتم ، شعور فظيع .