قد لا يكفي إصدار قانون لمكافحة الهجرة غير الشرعية، ولا تعهد الحكم بمحاسبة المتورطين في عصابات تهريب البشر، فما أكثر القوانين التي تصدر، وما أكثر ما سمعناه من تعهدات بالمحاسبة والمطاردة للمجرمين، ومع ذلك تزداد الجرائم ثقلا، ويتضاعف عدد عصابات الإجرام والفساد والبلطجة، وتتكاثر فواجع ومآسي وكوارث تطحن غالبية المصريين، وتكاد تحول المشهد إلي غابة من الجنازات والمآتم، وتضيع زهرة شباب المصريين بلا بواكي لهم ولا عليهم.
والقصة أكبر من الأمن المفقود، مع أن هذه حقيقة مرئية بالعين ملموسة باليد، ولا تعود ـ كما يتخرصون ـ إلي سنوات ما بعد الثورة، ولا إلي الانفلات الأمني المصاحب، فهروب المصريين من مصر أسبق تاريخا بكثير، وتضخمت الظاهرة علي مدي الثلاثين سنة الفائتة بالذات، ففي قرية واحدة ـ ميت الكرما ـ بالدقهلية، هاجر عشرة آلاف شاب إلي إيطاليا، وبطرق غير مشروعة غالبا، ولم يكن جهاز الأمن معنيا، ولا هو معني الآن بما فيه الكفاية، فقد جعلوا الأولوية للأمن السياسي وأمن النظام، ثم لا قيمة بعد ذلك لأمن الناس ولا لحياتهم ولا لحقوقهم المهدرة، فوق أن القانون خارج المعني السياسي المباشر، هو آخر ما تهتم به السلطات، والعدالة كسيحة كما نعلم، و»اللي له ضهر ما ينضربش علي بطنه» كما يقول المثل العامي فصيح المعني، وهاتوا لي ـ من فضلكم ـ أحدا حوسب بذمة وضمير، فقد ضاعت عشرة مليارات جنيه في عمليات فساد توريد القمح لموسم واحد، وأرغموا وزير التموين المسئول علي الاستقالة سترا للفضيحة، ثم وجه رئيس الوزراء شكرا عظيما للوزير المتهم علي جهوده الممتازة (!).
نهايته، لانريد أن ننكأ جراحا تقيحت بصديدها، ولا أن ننفخ في قربة ملأتها الشروخ والثقوب، فقد بحت أصواتنا من المطالبة اللحوحة بكنس امبراطورية الفساد، وليس بالغارات المتقطعة قصيرة النفس، والتي لا تقتل وحش الفساد، بل تقويه، وتعينه علي بناء استحكاماته، وتنويع تحايلاته، ودوس القانون ببدعة المصالحات المالية إياها، وبصورة تجعل القانون في أجازة طويلة، وتجعل الحق غريبا مهانا مطاردا، وتمد في عمر ضياع الكتلة الغالبة من شباب المصريين.
ولم تكن مفاجأة أن دراسات واستطلاعات أجريت في مراكز أبحاث حكومية، أثبتت أن سبعين بالمائة من الشباب يحلمون بترك مصر، وهذه كارثة أكبر من كلام لطيف خفيف عن قوانين ومحاسبات معطلة، فأسباب الهروب أو الرغبة فيه أعمق من ذلك بكثير، الأسباب في انسداد الأفق، وفي تحول حياة غالبية المصريين إلي جحيم لا يطاق، وفي تفشي الفقر والبطالة والغلاء والتعاسة والعنوسة وإهدار الكرامة الآدمية، وطبيعي أن يلقي ذلك بثقله علي رءوس الشباب بالذات، فهم أغلبية التكوين السكاني للمصريين، وليس بوسع عشرات الملايين أن يهربوا من بلدهم الذي خذلهم، خاصة بعد انسداد المهارب القريبة، مع تحطيم العراق، ثم تحطيم سوريا، وما جري ويجري من انسداد للمهرب الليبي، وانكماش فرص العمل المواتية في بلدان الخليج، وقد فكر المصريون، وفكر شبابهم بالذات، في أن بلادهم قد تكون أولي بهم، وقاموا بالثورة علي موجات مليونية متصلة، وعلي أمل أن تكون مصر ملاذا للمصريين، يحميهم من البؤس الذي يطاردهم علي أرصفة بلاد الآخرين، وقسوة إعادة الترحيل الدوري إلي مطارات بلادهم. ومع توالي السنوات بعد الثورة، عاد الحزن مقيما مخيما في بيوت غالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطي، واستبد اليأس بالنفوس، فلم يتغير شئ محسوس، بل زادت الوطأة، وعاد أولو الأمر لتبشيرهم بسنوات جديدة كبيسة من شد الحزام علي البطون الخاوية، وإشعال حرائق الغلاء في البيوت والجيوب، ومراكمة أحوال التعاسة فوق أكوام التعاسة، وجعل الأمل في العمل والحياة الكريمة بعيدا مخاتلا كالعنقاء والخل الوفي، ولم يعد بوسعهم حتي أن يصرخوا من الوجع، فآلة القمع جاهزة لكتم الأنفاس، ولا أحد يعدهم حتي بتحسن قريب، أو يقدم أدلة مقنعة علي التزام رسمي بعدالة توزيع الأعباء، ولا »الأخد من كل برغوت علي قد دمه»، فالأغنياء يتوحش غناهم، وتخفف عنهم الضرائب، ويتهربون من سداد الضرائب والجمارك بمئات المليارات من الجنيهات، ويهربون فوائضهم إلي الحسابات السرية في بنوك سويسرا، بينما الفقراء والطبقات الوسطي في قلب المحنة، ويطلب منهم وحدهم دفع الفواتير، وأحوال كهذه تذهب بالعقل، وتفسح المجال لمخاطرات الجنون، والهروب من جحيم حياة لا تحتمل إلي الموت غرقا في قيعان البحر، وعلي طريقة ما جري في حادث مركب رشيد الغارق، والذي راح ضحيته مئات من الشباب والنساء والأطفال، صبغوا وجدان مصر كلها بلون الحزن القاتم.
إذن، فالعلاج ليس فقط في احتياطات قانونية وأمنية مضافة، لكن المطلوب هو علاج أصل المرض لا ظواهر العرض، المطلوب جعل مصر مكانا مفضلا لإقامة وحياة المصريين، ليس بترديد الأغاني ولا الهتافات ولا الشعارات الفارغة من المعني، فأن »تحيا مصر» تعني أن يحيا المصريون بحرية وكرامة وعدالة، ويعني أن تمتلئ مصر بمئات آلاف المصانع والمزارع، وليس عندنا ـ والحمد لله ـ حروب أهلية، ولا أهوال دمار شامل كالذي يجري في بلدان قريبة منا، تدفع ملايين الناس إلي الهروب جبريا من حقول الموت، فلا تدمير حربيا للحجر والبشر في مصر، لكن أحوال السياسة والاقتصاد والمجتمع تدمر الروح وتميت الوجدان وتلهب الأعصاب، وتزيد من الاحتقان والغضب الاجتماعي والتذمر العام، وتلك حقائق ظاهرة كالشمس، لا تحجب حرارتها أصابع الإنكار العبثي، ولا القصص الأمنية الهزلية عن ضبط خلايا نشر الكآبة، بل نحتاج إلي تصرفات رشيدة، تعيد النظر في الاختيارات الخاطئة كلها، وتشفع ما جري من إنجاز إنشائي بانحياز اجتماعي لمصالح وهموم وأشواق غالبية المصريين، وإلا فاحذروا من طوفان الأحزان.