أحدثت كارثة ضحايا الهجرة غير الشرعية صدمة عنيفة في الوجدان المصري بعد ارتفاع عدد الغرقي والمفقودين. واتضح أن هذا المسلسل البئيس قد فتح علينا باباً جديداً للموت والحزن. يضاف إلي أبوابنا التقليدية: الإرهاب. وحوادث الطرق والقطارات. والتلوث المائي والغذائي. وانهيار المنازل والعمارات. والمخدرات. وتجارة الأعضاء.. لذلك كان لابد من التفكير في إجراءات حاسمة. وتشديد العقوبات لمنع تكرار الكارثة.
وقد تحركت الحكومة في هذا الاتجاه بالفعل. فأرسلت قانون الهجرة غير الشرعية إلي مجلس الدولة لمناقشته. تمهيداً لإقراره في مجلس النواب. ولا شك أن هذا القانون يمثل نقلة مهمة لمعاقبة المهاجر غير الشرعي الذي يخرج من البلاد بطريقة غير قانونية. ومعاقبة السماسرة والمقاولين وأصحاب قوارب الموت. وهذا كله أمر جيد. لكنه مجرد رد فعل لن يحل المشكلة. فالأزمة متكررة. ولابد من النظر للقضية من كل جوانبها. حتي يتسني إيجاد حلول عملية وفعالة.
العقوبات مطلوبة للردع. لكنها ليست هي الحل. أو ليست الحل الوحيد. لابد من البحث والتحري والدراسة للإجابة علي أسئلة صعبة تتعلق بالقضية مثل:
* ما الذي يدفع الشباب إلي المغامرة بحياتهم وركوب البحر من أجل حلم أقرب إلي الوهم. رغم علمهم بالمخاطر الجمة التي سيواجهونها. وأولها بالطبع خطر الموت في عرض البحر. أو القبض عليهم وترحيلهم إلي بلادهم خائبين؟!!
* ما الذي يدفع الآباء والأمهات من الفلاحين والصيادين البسطاء إلي بيع القليل الذي يملكونه والاستدانة وتوقيع شيكات أمانة لتدبير نفقات سفر أبنائهم إلي إيطاليا في قوارب الموت. رغم كل ما عانوه من قبل. والجنازات التي شاركوا فيها لضحايا هذه المغامرات غير المضمونة؟!!
* كيف راجت تجارة الهجرة غير المشروعة مؤخراً. ومَن هم السماسرة والمقاولون الذين يسيطرون عليها. ويروجون الوهم بين الناس. ولماذا يصدقهم المواطنون بعد كل ما شاهدوه بأعينهم من كوارث؟!!
لو ذهبت جيوش الباحثين الاجتماعيين "العاطلين" إلي برج مغيزل ومطوبس والجزيرة الخضراء وغيرها من قري كفرالشيخ المنكوبة. وأجرت دراسات حول الظاهرة. وطرحت الأسئلة. فقد تساعد في رسم صورة متكاملة للمشكلة من كل زواياها. ومن ثم طرح الحلول المناسبة والفعالة.
ولأن هذا لم يحدث. وغالباً لن يحدث. فقد قامت بعض الصحف بإجراء تحقيقات ميدانية من هذه القري المنكوبة.. قابلت الأهالي واستمعت لنماذج من الشباب الناجين. وقدمت من خلالهم قصصاً يشيب لها الولدان. فهناك من فقد زوجته وأولاده. وهناك من استطاع الإبحار 5 ساعات. حتي أسعده الحظ بقارب نجاة. وهناك من شاهد أخاه وزوجته يموتان أمام عينيه ولم يتمكن من إنقاذهما.
لكن يظل السؤال: لماذا الإقدام علي هذه المغامرة غير المضمونة؟!!
تكاد الإجابات تكون متشابهة.. البحث عن لقمة العيش. عن فرصة العمل.. وفرصة أفضل للحياة.. العيش بدون عمل. قتل الأحلام هنا. ومن حاول أن يبدأ مشروعاً خاصاً به انتهي إلي الفشل. البطالة غول. وفرص العمل غابت تماماً منذ عام تقريباً بعد تدمير نشاطهم الزراعي. النخيل أصابه مرض الإيدز. وموسم البلح انضرب.
أضف إلي ذلك أن قري الهجرة غير الشرعية تعاني من نقص الخدمات. واختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي. وتفشي الأمراض. بسبب تلوث المياه. وعدم توافر رعاية صحية معقولة. أقرب مستشفي لهم هو مستشفي رشيد العام في البحيرة. ويحتاج الذهاب إليه لسفر "يكون المريض قد فاضت روحه إلي بارئها".
وما يثير الحزن أكثر وأكثر.. أن الشباب الذين نجوا من الموت بأعجوبة. يصرون بحدة علي أنهم سيحاولون السفر مرة أخري إلي إيطاليا لو جاءت الفرصة من جديد.. فالحياة أصبحت مستحيلة.. والموت في سبيل الرزق شرف وشهادة.
هذه الرؤية لا تُعالج بالقوانين والعقوبات وحدها.. وإنما ببذل الجهد لكي نُحَـوِّل القري المنكوبة من مناطق طرد. إلي مناطق عمل واستقرار لأبنائها.. ذلكم هو التحدي.