الهدم صار هواية مصرية. بدأنا الهواية فى الخمسينيات وتفوقنا فيها حتى أصبح لا يجارينا أحد فى ذلك. ومع الوقت أصبح الهدم جزءاً من طبيعتنا.
قد تقول إن هذا كلام مرسل. فقط انظر حولك. تأمل تجارب البلاد الأخرى التى مرت بمحطات تحول تاريخية ربما أقوى وأعنف من الثورات والتغيرات فى شكل الحكم.
اليابان.. بعد هزيمتها الصعبة فى الحرب العالمية الثانية. مجتمع ممزق. وأثر القنبلة الذرية التى ألقيت على هيروشيما ونجازاكى لم ينته أبداً. كان آخر قرار سياسى اتخذه الإمبراطور هو الاستسلام. لم يطالب أحد بعدها بإنهاء الوجود الإمبراطورى وتغيير النظام السياسى. لأن هذا النظام هو المسؤول عن الهزيمة وتوريط البلاد فى الحرب. ما حدث أنه جرى تطوير النظام. استمر الإمبراطور رمزاً للبلاد، يملك ولا يحكم. بل لا يتداخل فى السياسة أو يعلق على ما هو جارٍ. أصبحت اليابان دولة دستورية جاهزة للانطلاق.
بريطانيا.. قامت فيها ثورة النبلاء على الحكم الملكى. لم تبدد الثورة الملكية. أخضعوها لضوابط حديثة. حكموها بـ«الماجنا كارتا». قانون يجعل الملك يملك ولا يحكم. الدستور فى بريطانيا لم يُكتب إلى يومنا هذا. لكنه ظل محترماً من الجميع ولم يعبث به أحد.
الولايات المتحدة.. صدر دستورها عام 1789 وبقى نافذاً طوال هذه السنوات. كانت تضاف عليه كل عدة أجيال تعديلات وتحديثات مواكبة للعصر. دون العبث بجوهره ومبادئه الأساسية.
روسيا.. قامت الثورة البلشفية وسقط ملايين الضحايا. وبقيت آثار القياصرة لم يتبدد منها شىء. يراها كل زائر. وبعد فترة أعادوا لـ«سان بطرسبرج» اسم قيصرها العظيم، بدلاً من ستالينجراد التى كانت على اسم ستالين. بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. استمر الحزب الشيوعى. لم يطلب أحد حظره أو إلغاءه.
الصين.. بعد ماوتس تونج جاء العبقرى ذو الرؤية الخلاقة «دينج تشاوبينج». حول بلاده إلى اقتصاد السوق. غير معها شكل العالم. مع ذلك أبقى على الحزب الشيوعى الصينى. طوره وغير توجهاته. هدف الصين اليوم التخلص من كل قطاعها العام. انتهج سياسة للتنفيذ بالتدريج خلال تسع سنوات. نستنسخ نحن القطاع العام فى شكل آخر.
لدينا نحن تحولان مهمان «23 يوليو» ثم «25 يناير»، بعد الأولى ألغينا الملكية بقرار دون استفتاء، اليونان مثلاً ألغت الملكية باستفتاء، لم نفعل مثل اليابان وطورنا النظام السياسى بإلزام الملك بدور الرمز الذى يملك ولا يحكم. حتى مقتنيات القصور الملكية بعناها فى مزادات علنية.. انتقلت إلى قصور أثرياء أوروبا ولبنان. بعنا أكبر مجموعة من مجوهرات Faberge فى العالم كان يقتنيها الملك فاروق، على العكس مقتنيات القياصرة فى روسيا مازالت متاحة لكل زائر حتى اليوم.
ألغينا الأحزاب بقرار أيضاً. دمرنا الحياة السياسية. ألغينا دستور «23» المتطور جداً. ألغينا مشروع دستور «54» فى القمامة. ألغينا الرأسمالية الوطنية. أممنا الشركات والمصانع والمشروعات. جعلنا الدولة تفعل كل شىء تبيع وتشترى وتمارس السياسة. حتى الصحافة أممناها. وصار كل البلد رأيه من رأى الزعيم. وعقله عقل الزعيم.
بعد 25 يناير كانت الفرصة لإصلاح ما جرى. العكس كان ما عشناه. ألغينا دستور «71». لم نسع لتعديله رغم مزاياه. خلقنا فراغاً فى وقت فوران. حرقنا المجمع العلمى الذى بناه لنا الفرنسيون منذ عام 1798. العناية الإلهية أنقذت المتحف المصرى من النهب والسرقة.
ألغينا الحزب الوطنى. لم نترك الأمر للجماهير لتحكم عليه فى أقرب انتخابات. المكسيك فعلت ذلك «حزب الفعل الوطنى» حكم لعقود طويلة منذ عام 1939. الناخب المكسيكى أسقطه. عاد للظل لنحو 13 عاماً. أعاده الناخب العام قبل الماضى. تولى مقاليد الحكم مرة أخرى. خرج بإرادة المواطنين وعاد بإرادتهم. لكننا مزقنا الحزب الوطنى. وتركنا الأحزاب الوليدة تتسابق على كوادره. تفننا فى خلق كل فراغ ممكن لمساعدة الإخوان على الحركة والسيطرة.
أكثر من ذلك ألغينا الكوادر والخبرات. طاردنا كل كفاءة بلعنة «الفلول». هاجمنا رجال الأعمال. كل شخص صافح الرئيس مبارك مرة أو حضر جلسة استماع فى الحزب الوطنى. زدنا الفراغ السياسى وخلقنا فراغاً فى الكفاءة والخبرة. ولمسنا النتيجة بأنفسنا.
بعد أيام تحل ذكرى نصر أكتوبر 73. ذات مرة استدعينا قاتل السادات بطل الحرب ليحتفل بالنصر. وهو النصر الوحيد الذى جناه العرب والمسلمون منذ عهد صلاح الدين الأيوبى. القائد الوحيد المتبقى من قادة النصر هو صاحب الضربة الجوية حسنى مبارك. ألغينا تاريخه أيضاً. حذفناه من سجل الاحتفال ومن ذاكرة النصر. وضعناه خلف القضبان حتى يومنا هذا.
مارسنا هواية الهدم على كل شىء. التاريخ. الاقتصاد. السياسة. لم يعد لدينا ظهير مدنى نعتمد عليه. لم يبق إلا قواتنا المسلحة نتكئ عليها. لم يعد لدينا خيار. حتى الجيش هناك من حاول ويحاول هدمه.