الجمهورية
جلاء جاب اللة
رسالة "أمل" .. من تحت الماء!
هذه رسالتي من تحت الماء.. لست الشاعر نزار قباني. فأتنفس من تحت الماء. أو أغرق. فأكتب شعراً يغنيه عبدالحليم حافظ.. لكني أكتب أملاً في غد أفضل لأهلي وناسي.. في بر مصر.. وأنا الغريق الشهيد. ضحية مركب رشيد!!
اسمي؟!.. ليس مهماً.. فأنا واحد من ملايين الشباب.
سني؟!.. أقل من 18 عاماً.. لأنهم في إيطاليا يعاملون مَن هُم في مثل سني معاملة طيبة عندما نصل بشكل غير شرعي.
حلمي؟!.. لم يمت. مازال حلمي حياً برغم موتي غرقاً.. فأخي الأصغر سوف يهاجر بنفس الطريقة بحثاً عن أمل!!
رسالتي هي رسالة أمل.. لأنني أشاهدكم وأسمعكم. وأنتم لم تعثروا علي جثتي بعد.. ليس مهماً أن أدفن تحت التراب. أو أدفن تحت الماء.. فكلاهما موت.. المهم.. وماذا بعد الموت؟!!
صدقوني.. لو لم أمت غرقاً.. لحاولت الهرب مرة أخري. وسافرت بحثاً عن أمل.. عن حياة.. بحثاً عن الثراء وراء البحر. هناك في الشمال. حيث أعمل فأحصل علي اليورو أو الدولار. وبسعر السوق السوداء.. أبعث إلي أهلي كل شهر ما يحتاجونه. ولكي نبني بيتاً جديداً. ومشروعاً جديداً!!
هذه رسالتي من تحت الماء. لعل أحدكم يسمعها وينقلها لمن يهمه الأمر!!
المركب التي غرقت. وغَرَقْتُ معها.. لم تكن أول مركب تغرق في هجرة غير شرعية.. ولن تكون الأخيرة. والدولة كلها تعرف.. وإذا كانت برج مغيزل أو رشيد هي المحطة الآن.. فهناك محطات أخري في مصر.. من العريش حتي مطروح.. المهم.. هناك سماسرة وتجار.. ومركب.. ومعهم "الأمل"!!
نعم الأمل في غد أفضل وحياة أفضل ومال أكثر. وثراء سريع. هو سبب هروبنا إلي الشمال.. ولو كان هذا الأمل موجوداً في بر مصر. ما هاجرنا وما هربنا.. وما بحثنا عن الموت!!
سمعت مَن يقول إننا المجرمون الذين هربنا إلي الموت. لأننا دفعنا للسماسرة ثمن موتنا غرقاً.
وسمعت مَن يقول إن هناك مَن ضحك علينا. وباع لنا الوهم.. قد يكون ذلك صحيحاً بالفعل. ولكنكم تنسون أننا الذين نريد هذا الوهم.. لماذا؟!.. لأننا لا نملك غيره!!
شاهدنا شباباً قبلنا سافر.. وأرسل إلي أهله المال. فبنوا بيوتاً جديدة.. وامتلكوا المشروعات. بينما شباباً ظل في بلده. فلم يفعل شيئاً.. فاخترنا المغامرة!!
نعم.. نحن نسافر ونعمل في وظائف يراها البعض مهينة وقاتلة.. لكن هؤلاء البعض لم يذكروا لنا.. وماذا بعد الانتهاء من العمل؟!.. نحن نلبس ثيابنا ونعيش مثل الآخرين. ونحصل علي راتبنا الذي يوازي عشرات وأحياناً مئات من مثيله لو عملنا نفس العمل في بلدنا.. لا أحد يحاسبنا علي أعمالنا إن كانت في مكتب مكيف. أو في الزبالة.. ولا أحد يسألنا عن شيء مادمنا ملتزمين بالقانون. ونعمل ونكسب!!
حلم الهجرة يراودني منذ صغري.. أجلس أمام البحر. وأنظر إلي هناك. إلي بعيد.. إلي الشمال.. وأحلم عندما أكبر قليلاً فسوف أسافر لأعمل وأكسب. لأنني لا أجد عملاً. ولا أجد مكسباً في بر مصر. لست فيلسوفاً. ولا خبيراً. ولكن سأقول لكم وأنا غريق تحت الماء كل ما في قلبي.. كان أبي يقول لنا إن مصر هي الأمل. كان جدي يقول لنا إن أهل مصر لا يحبون الهجرة إلي الشمال أو الجنوب.. كنا نعيش في بر مصر حول النيل.. كل الشعوب تتوسع أفقياً في بلدها. ونحن نتوسع رأسياً.. لأننا لا نبتعد عن النيل. ونعيش في الوادي والدلتا علي أقل من 10% من بلدنا.. لماذا؟!.. لأننا تربينا وعشنا نحب ونعشق تراب مصر. ونيل مصر. وهواء مصر.. فلماذا أصبح الأمل الآن في الشمال؟!!
كان من يهاجر فينا يسافر العراق أو ليبيا. أو في أي دولة من دول الخليج.. يعيش هناك عدة سنوات. ويعود كل عام ومعه ما استطاع أن يحمله من متاع أو مال.. الآن.. أغلقوا كل الأبواب.. فلم يعد أمامنا إلا الشمال. أو الموت غرقاً!!
الفقر ليس عيباً.. ولم نهرب من الفقر.. لأننا عشنا فقراء. وتحملنا.. لكن عندما يكون الفقر ذُلاً.. فلا نرضي به.. لقد ماتت فينا أشياء كثيرة بعد نكسة 67. وموت جمال عبدالناصر.. والانفتاح.. وأشياء أخري كثيرة. لكن لم يمت الأمل.. فانتصرنا في أكتوبر .1973
وكانت النكسة الحقيقية عندما استبدلنا الأمل في مصر من الإحساس بالإنسانية. والإحساس بالمواطنة. إلي الإحساس بالثراء و"الفلوس".. أصبح الأمل هو الثراء. وليس الحياة!!
لست فيلسوفاً أو خبيراً.. لكن صدقوني تلك هي الأزمة التي قتلت الأمل فينا داخل مصر. وجعلته كالسراب في الشمال. يداعبنا ويطالبنا بالمغامرة. حتي لو كان ثمنها الموت!!!
هذه رسالتي من تحت الماء. قد تكون الأخيرة. لذلك فأنا أراكم وأسمعكم وأشاهد ما يحدث في كل بر مصر.. وأنتم لا تروني ولا تسمعوني.. فحاولوا أن تسمعوا هذه الرسالة الصادقة من تحت الماء!!
الحكومة عاجزة عن عمل أي شيء.. عاجزة عن اللحاق بفكر وعقل وأمل الرئيس السيسي!!
أنا لا أنافق أحداً. ولا حتي الرئيس. لأنني الآن في دار الحق.. فالرئيس السيسي يحمل أملاً كبيراً. وفكراً كبيراً. ولكن الحكومة في واد آخر!!.. أين كان الأمن والسماسرة يجمعون أموالنا؟!.. أين كان الأمن والمراكب غير الشرعية تهاجر أكثر من مرة. ونحن معها؟!.. أين كان الأمن. والآلاف يهاجرون بين موت وأمل. في النجاة.. والأمل في الحياة؟!!
أين كانت وزارة الهجرة. ونحن نهاجر بشكل غير شرعي. وغير آمن. وغير إنساني؟!.. الثلاجة التي تسع 50 شخصاً. يضعون فيها المئات.. فيعيش في ظلمة الثلاجة داخل ظلمة المركب. في ظلمة البحر وظلمة الليل.. ومع ذلك نجد لدينا أملاً ينير هذه الظلمات.. لماذا؟!.. لأن هناك أملاً نهاجر من أجله.. فلماذا لا نضع هذا الأمل في بلدنا؟!!
أعرف أن الرئيس السيسي خلال عامين. أنجز مشروعات كبري عملاقة تخدم مصر مثل قناة السويس. والطرق والكباري. و1.5 مليون فدان.. وعودة للإنجازات والمدن الجديدة.. وأشياء أخري كثيرة.. ولكن أنا الإنسان المطحون الفقير.. أين أنا؟!!
الأسعار ترتفع. ولا أحد يوقفها.. أعرف أن جشع التجار أحد الأسباب. لكن الحكومة مسئولة.. فماذا فعلت؟!!
الدولة قدمت مساكن للشباب. ولكن هناك مَن لا يملك القدرة.. فماذا يفعل؟!.. ومَن لا يملك واسطة ومحسوبية.. فماذا يفعل؟!!
هل تصدقون أن بعض الشباب الذي هرب لجماعات الإرهاب. كانوا أيضاً يبحثون عن أمل تحت ستار واسم الدين. ويرضون بالموت تحت اسم الشهادة؟!.. أليسوا يحلمون ويملكون الأمل في الشهادة. كما أحلم أنا الغريق بأن أكون شهيداً أيضاً؟!!
هم هربوا تحت شعار الدين للإرهاب. ولا يسمونه إرهاباً.. بل يسمونه جهاداً. وأملاً في دولة إسلامية.. والإسلام منهم بريء.. ونحن هربنا تحت شعار العمل. أملاً في الثراء والحياة السعيدة. حتي لو كان هروبنا في كفن!!
كلانا هارب يبحث عن الأمل.. ونسينا أن الأمل مازال يجري مع النيل في بر مصر.
صدقوني.. وأنا الآن في دار الحق أقول لكم.. الأمل مازال يجري مع نهر النيل في بر مصر. حتي لو كانت مؤامرة إسرائيل وغيرها من خلال سد النهضة. تحاول أن تقتل فينا هذا الأمل. لكنهم نسوا أن المصري هو الأمل الحقيقي إذا أعدنا إليه الثقة في نفسه. وفي وطنه.. وفي المستقبل!!
أعرف أن بلدنا عاشت سنوات طويلة تحت حصار المتربصين بها في الخارج. ومن يساندهم بقصد أو بدون قصد في الداخل.. وأعرف أننا نعاني آثار ما قبل ثورة يناير ..2011 من فساد ومخططات.. وما بعد الثورة من فوضي وبلطجة. وأيضاً فساد. بخلاف الإرهاب والضغوط الدولية لتقسيم المنطقة.. ولكن الأمل لابد أن يكون صناعة مصرية.
رسالتي من تحت الماء هي رسالة أمل لأنني أؤمن برغم سراب الثراء السريع في الشمال. أن كرامتنا وقيمتنا الحقيقية في بلدنا.
أعيدوا لنا الأمل.. إنه لم يمت.. بل في هروب.. قد يكون هارباً أيضاً إلي الشمال. هارباً في البحر. لكنه لم يغرق مثلي. بل هو مازال موجوداً.. أعيدوه من جديد إلي بر مصر.. ساعتها لن نهرب إلي السراب والموت.. أو حتي الثراء السريع والمال الوفير في الشمال.
هذه رسالتي.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف