يسرى السيد
مواكب اليأس و الموت ورصاص الفيس بوك!
لعن الله اليأس والاحباط..
بعد غزو العراق للكويت عام 1990 وهروب معظم من كانوا في الكويت ومئات الالاف من المصريين في العراق تحسبا للمعارك المنتظرة لتحرير الكويت..الكل جاء لمصر فرارا بجلده من الموت .. وقتها وبحماس الشباب طلبت من الكاتب الراحل محمد الحيوان مدير تحرير الجمهورية السفر للعراق ومنها للكويت للتغطية الصحفية للاحداث.. وقتها ابتسم الكاتب الكبير قائلا: انت عايز تنتحر ولا ايه؟.. قلت: ياريس مش معقولة مئات الآلاف من المصريين هناك ووسط هذه الاحداث يكونون بلا صوت صحفي مصري يعبر عنهم وينقل رحلات الالم والهروب من الموت كما ولدتهم امهاتهم واضقت بحماس: الي متي نري الاحداث بعيون الغرب واقلامهم المسمومة .. بحنو الاب قال الاستاذ الحيوان: الجريدة مش مستعدة تغامر بحياتك وترسلك الي هناك لان الموقف هناك خطيرجدا والوضع مرشح للتصعيدغيرالمعروف عواقبه.. وصمت برهة مضيفا: بالاضافة ان هناك شيئاً مهماً آخر..قلت: وماهو؟..قال: انت صحفي تحت التمرين في الجمهورية ولم تعين بعد وبالتالي سيكون جواز سفرك بدون وظيفة صحفي ولاتملك كارنيه نقابة الصحفيين بالطبع أو كارنيهاً للصحفيين الدوليين.. الخ من اوراق تسهل مهمتك وبالتالي ستكون بلا حماية من الناحية المهنية علي الاقل!!.. قلت: أسافر علي مسؤليتي الخاصة.. قال: انا لااملك منحك هذا التصريح.
بدأت رحلة العناد والمعاندة بمحاولة استخراج جواز سفر. لكن تسارع الاحداث وبدء توافد المصريين والكويتيين الفارين بجلدهم الي مصر بالآلاف جعلني اعدل من رغبتي بطلب السفر إلي نويبع كي اكون في استقبال حكايات وآلام العائدين.. وقلت في نفسي: مالايدرك كله لايترك كله!!.. وذهبت الي نويبع مع احد الزملاء المصورين لاستقبال ووصف ونقل مشاعر العائدين وكنا نرسل الرسائل ونيجاتيف الافلام في اظرف ورقية عبر الاتوبيسات او سائقي البيجو والميكروباص إلي موقف أحمد حلمي بالقاهرة ليستلمها أحد الزملاء من الجريدة. فلم يكن وقتها قد وصلت تكنولوجيا الاتصالات الي الايميل او حتي التليفون المحمول ..انهمكت مع آلام وحكايات العائدين وطرق فرارهم من قطاع الطرق أو بعض الكمائن في الطريق من الكويت إلي العراق او من العراق إلي الاردن أو من الاردن إلي مصر ونجاح بعضهم في تهريب بعض الاموال أو الاشياء النفيسة أو ما خف وغلا ثمنه من هؤلاء.
وفي الوقت الذي يقف العائدون في طابور امام الجمارك أو مسئولي منفذ نويبع للدخول إلي مصر وتقبيل البعض لترابها والدموع تغطي وجهه والاحضان من بعض الموجودين حتي لو كانوا لايعرفونهم فوجئت وسط انهماكي في هذه الحكايات بمشهد لا أنساه حتي الآن .. فوجئت بطابور اخر من المسافرين.. ظننت في البداية انهم مسافرون إلي الاردن أو السعودية لكن المفاجأة التي ألجمت لساني انهم مسافرون إلي العراق والكويت برا وعبر الصحاري..خطفت يد زميلي المصور واتجهت اليهم قائلا: تعال نشوف الكارثة دي!!..
اقتربت من الطابور الذي يتزايد كل لحظة وسألت شاباً يرتدي جلبابا ريفيا : أنت رايح فين؟.. قال: العراق.. كانت العراق طبعا بلا تأشيرات للسفر.. قلت: الا تعرف ماذا يحدث هناك او الخطر الذي تحمله الايام القادمة؟.. قال: أعرف.. قلت: يعني عارف انك ممكن تموت اذا نشبت الحرب هناك..قال: طب مانا ميت هنا!! بصراحة ألجمتني كلماته وعجز اللسان عن النطق برهة وتوقفت لغة الكلام حتي عادت بكلمات واهنة.. قلت: يارجل لو سرحت بسبت سميط افضل من ان ترجع في نعش. ده لو كان هناك نعوش فاضلة أو مأكلتكش الديابة.. قال: الديابة هنا مش هناك واكلت كل شيء هنا ومش فاضل إلا ان نأكل بعض.. قلت: الايكفي ما معك في عمل اي مشروع صغير.. قال: يا استاذ انتم بتعوموا في ماء البطيخ..قلت: يعني ايه؟.. قال: احنااتقتلنا من سنين والقاتل ماشي في جنازتنا وقاعد يأخد عزانا بدم بارد..وانتم قاعدين معاه تطنطنوا بكلام معسول لانكم مش عارفين المرار اللي عايشينه!.. انتقلت لاخر قال وهو ينظر الي بعيد: لو علي نفسي مش مهم ولو حتي اكل من الزبالة. لكن اعمل ايه في كوم اللحم اللي في رقبتي.. امي وابويا ومراتي و 3 عيال مش عارف اجيبلهم عيش حاف.. ويتدخل اخر قائلا: ايه اللي رمينا علي المر.. قلت : وهو ايه اللي امر منه..قال: ان تكون في بلد كل شيء فيه بالواسطة ومتعرفش تاخد حقك الا لو كان وراك ضهر وفوق كل ده منتش لاقي تأكل.. قلت: يعني هناك الجنة مستنياك والملايكة في كل مكان منتظرينك..قال الظلم اللي يجيي من غير اهلك م يبقاش زي الظلم هنا.
* وبعد سنوات تكرر المشهد امام مكتب الخطوط الليبية في وسط القاهرة منذ شهور. ووسط اشتعال الاحداث هناك وجدت المئات يتعاركون من اجل الحصول علي تذكرة سفر إلي أرض الموت ..كررت ما قلته منذ نحو 25 عاما مع الواقفين. وكانت الاجابات نفس الاجابات مع تغير الوجوه والمكان والاسماء بالاضافة لبعض الجمل:رب هنا رب هناك. واللي مكتوب علي الجبين لا زم تشوفه العين سواء هنا اوهناك.. لكن اكثر ما لفت انتباهي هو قدرة هؤلاء الشباب علي تبريرهم السفر الي ارض الموت وتطمينهم لبعضهم البعض مثل: "الحرب مش في كل ليبيا وهناك اماكن هادية". واخر يقول: "الاعلام بيضخم كل حاجة وبيصور المعارك في كل حتة لكن الواقع غير كده!!
* والآن يتكرر المشهد يوميا في مراكب الموت وآخرها مركب رشيد ولن تكون الاخيرة ولا اعرف بداية بأي خلق او دين سمي مركبه بـ "موكب الرسول".. تعددت الاسباب واختلف الموتي واختلف سماسرة الموت.. و الطريق الي الموت مفروش غالبا بالورود والاحلام.. في بعض القري تحولت منازلها الطينية القديمة بفضل بعض اولادها المسافرين الي فيلات و عمارات. بل ونقل العائدون الي قراهم الاسماء الافرنجية لاولادهم او محلاتهم او حتي تصميمات بعض المباني .. فهذه قري يغلب عليها الهجرة الايطاليه وتلك الفرنسيه وهذه سعوديه او اماراتيه او كويتيه بالاضافه الي اثار هجرات عراقيه..باختصار ¢زغلل¢ الثراء القادم من بعض البلاد الاوروبية عيون من لم يسافروا. فلماذا لايكون فلان الفلاني مثل ابن علان العلاني اللي م كانش حداه اللضي واتجوز خواجية وبني عماره ولسانه أتعوج من الافرنجي..واخر يرد امتي حناكل البيتزا بدل البتاو والمكرونه الطلياني بدلا من ام صلصة الي حرقت صدورنا..
ولان النصاب يلزمه طماع. استغل سماسرة الموت شبابنا. اليائس والمحبط تارة. او الحالم بالثروة وبالبت الخوجاية تاره اخري. الحالم بالعمارة والعربية مع البيتزا بدلا من الدار الطينية والبت اللي باحبها ومش قادر ادفع مهرها او حتي اجيب لها شبكتها..يعني ازمة اقتصادية وزغللة في الاحلام.. وفي سبيل ذلك كل شيء يهون من السلف من اللي يسوي واللي م يسواش الي بيع الجاموسة والصيغة وبعض الذهب ورهن الارض اللي م بقتش تجيب همها مع الشباب الجديد اللي عايز يفلح ويزرع لكن في المزرعه السعيده علي الفيس بوك بعيدا عن الوحل والطين والجري وراء البهايم علي الجسر..
يعني شباب عاطل و مصر علي البطاله..احلام تحولت الي كوابيس بعد التخرج من الجامعه..والغريبة ان البلد اللي مفيهاش شغل وكل شيء بالواسطة تفتح قلبها لملايين السوريين والفلسطينيين والافارقة وحتي الصينيين .. الخ من جنسيات تمتليء بها شوارع القاهرة والمحافظات.. قصص نجاح لشباب سوري جاء لمصر بما يرتديه فقط من ملابس ومعه حلم بالحياة بعد ان فرمن الموت باعجوبه..يعني هم فروا من الموت الي الحياة في مصر..ونحن نهرب من الحياة في مصر الي الموت في البحر او اماكن وساحات الحروب..هل هو اليأس والاحباط من الحياة ذاتها ام هو حب الموت؟..
السوريون مثلا يعرفون ثمن الحياة بعد ان اقتربوا من الموت او ذاقوه من خلال الاهل والاصحاب..ونحن لانعرف قيمة الحياة ونهاجر للموت كالقطيع الذي فقد عقله..هم يعرفون معني الوطن بعد ان عاشوا احساس الفقد..ونحن لا نعرف معني الوطن لاننا انشغلنا عنه ببعض مصاصي او سافكي الدماء..تري من المعيب احنا ولا الوطن.. حب الحياة ام الموت.. هل نحن نقدس الموت بعد ان اقمنا له المعابد والاهرامات في الماضي ونصر الآن ان نذهب للاخرة بارادتنا وبفلوسنا من خلال مراكب الموت وقواربه او نعوش الغربة الباردة..هل فقدنا الوعي جميعا..حكومة وناسا؟.. .هل فقدنا الرغبة في الحياه لهذا الحد؟..الناس تبيع الغالي والرخيص من اجل السفر الي الموت.. والحكومة تترك سماسرة الموت يحصدون الارواح تحت سمع وبصر الجميع.. الناس تعرف الطريق الي الموت وتحفظه عن ظهر قلب والحكومة تعرف اماكن انطلاق مراكب الموت ومواعيد الهجرة الي الاخرة ولاتنقذ اولادها المخدرين من هؤلاء القتلة.. تري مايحدث جهل ام تواطؤ؟.. الكل تحالف مع الشيطان للوصول للموت..والشيطان هنا..هو نحن..بيأسنا وطموحنا. باحلامنا وكوابيسنا .. بمرضنا وجهلنا وتخلفنا..بفقدان الامل أو الرغبة في العمل !!
* ناهض حتر.. دمه في رقبة من؟
نعم الكاريكتير الذي نشره علي صفحته علي الفيس بوك كان صادما لنا في الوهلة الاولي..لكن اذا عرفت انه ليس صاحب الكاريكتير وانه ازاله عندما سمع صيحات الرفض و فسر ما يقصده بفضح زيف الدواعش بان صورة الله عندهم تختلف عن صورته لدي المؤمنين. فالدواعش وامثالهم الذين يقتلوننا ويدمرون بلادنا ويصلبوننا ويقطعون رؤوسنا باسم الدين يبشرون انفسهم بعد كل ذلك بجنات وحور عين وخمور وغلمان مخلدين.. المهم و بعيدا عن الرسم وحتي المغزي لان ذلك متروك للخالق الذي قال من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومع ذلك يرزق الكافر به بل ويمنحه حق الحياه..ويكون السؤال اذا كان المولي عز وجل تنزه عن حرمان مخلوقه الكافر به من رزقه او العيش تحت سمائه واعطاه الحريه في الايمان به او الكفر به. فمن الذي يمنح نفسه بما تنزه عنه الخالق؟!
المهم ان ماحدث هو استمرار للدعايه السيئة للاسلام بين اهل الديانات الاخري رغم ان التعصب موجود عند الجميع لكن هناك عده امور شغلني التفكير فيها مثل مالفارق بين حكومة الاردن وداعش في هذه القضية ..الحكومة سجنته وقدمته للمحاكمة بتهمة ازدراء الاديان والدواعش او السلفيون نفذوا الحكم وقتلوه.. الحكومة هناك اتهمته والتهمة هنا مثل الرصاصة اذا خرجت من فوهة المسدس لا تعود حتي لو حصل المتهم علي براءة القضاء.. والدواعش مثل الحكومة صدر حكمهم وخرجت الرصاصات الثلاث ولن تعود مادمت فارقت المسدس..الحكومة لم تخف واتهمته بازدراء الاديان وهي تهمة مجرد اطلاقها علي شخص في مجتمعاتنا كفيل بالقضاء عليه حتي ولو ظل علي قيد الحياة لانه سيوصم بالكفر ما عاش من ايام..و القاتل مثل الحكومة لايخاف وسلم نفسه بعد تنفيذ حكمه او حكم جماعته..
اخيرا من الذي يمنح نفسه حق ازهاق روح او تكفيرصاحبها رغم ان الخالق عز وجل قال من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.