الأخبار
يسرى الجندى
من رسائل الكواكبي.. عن الاستبداد ووهن الأمة
نختم حديثنا عن (عبدالرحمن الكواكبي) أبرز رمز عربي في مواجهة الاستبداد العثماني بعدد من الرسائل تم استخلاصها مما كتبه بدءاً من شبابه في (حلب الشهباء) مسقط رأسه وحتي رحيله مبكراً حين استقر بالقاهرة وتم اغتياله بالسم علي يد أحد عملاء العثمانيين.. نتخيل أنه يرسلها الآن حيث حلب تعيش جحيماً تكتمل معه محنة العرب في هذه المرحلة وهي حصاد مرير لاستبداد مستمر منذ العثمانيين وما قبلهم وما بعدهم استبداد محلي الصنع واستبداد خارجي كالاستبداد العثماني.. وحتي ما تشهده منطقتنا الآن من استبداد عالمي ظالم لا يبالي بغير مخططاته.
مهما تجرعنا نحن من تمزق وتشرد وإغتراب وجوع ودمار وتطرف وحشي أجيد صنعه ومستقبل لا يبين.
- نبدأ بقوله (خلق الله الانسان حراً قائده العقل.. فكفر.. وأبي ان يكون إلا عبداً قائده الجهل)!
هل هي صفة كل البشر؟!.. فيردد قول رسول الله (من أعان ظالماً علي ظلمه سلطه الله عليه) أي أن الأمر مرهون بمقاومة الظلم أو دعمه.. ثم يضيف للمسألة بعداً آخر (لقد عدد الفقهاء من لا تقبل شهادتهم لسقوط عدالتهم فذكروا حتي من يأكل ماشياً في الأسواق.. ولكن الاستبداد أنساهم أن يذكروا الظالمين فترد شهادتهم.. اللهم إن المستبدين وشركاءهم قد جعلوا دينك غير الدين الذي أنزلته!).
إذن هو يري في الاستبداد اطرافاً آخر غير المستبد والعامة، بل وعوامل أخري إذ يقول: (من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل علي العلم)! ويكمل.
( إن بين الاستبداد والعلم حرباً دائماً وطراداً مستمراً.. يسعي العالم الي تنوير العقول ويجتهد المستبد إلي إطفاء نورها.. والطرفان - المستبد والعالم يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟
هم أولئك : الذين (إذا جهلوا خافوا).. وإذا خافوا استسلموا.. كما أنهم هم الذين متي علموا قالوا ومتي قالوا (فعلوا) ها هو يبدأ حديثه عن وهن الأمة وعكسه!
- وإزاء أهم عناصر الوهن الجهل الذي يورث الضعف وغياب الإرادة يقول (يصرف بعض المستبدين شيئا من الصداقات وبناء معابد سمعةً ورياءً!
وكأنما يريدون ان يسرقوا قلوب الناس - وهذا يحدث - أو كأنهم يرشون الله! إلاساء ما يتوهمون)!
وفي صدد مقاومة الوهن يقول (ان المستبد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتجمدين (المطبلاتية) والامة - أي أمة - ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والثبات) ويخاطب الفقير محذراً من مسلك مناقض (لا يطلب الفقير معاونة الغني إنما هو يرجو ألا يظلمه، ولا يلتمس منه الرحمة أنما يلتمس العدالة، ولا يؤمل منه الانصاف أنما يسأله ألا يميته في ميدان مزاحمة الحياة).
وهو يرفض ذلك لأن العقل والدين يقول (ان الله جعل الارض ممرحاً لجميع المخلوقات) مثلما أكد سابقاً أن كل الثروات العامة ملكاً للجميع بالتساوي وأن الفروق تأتي بالمكر والمغالبة وأن هؤلاء (هم ربائط المستبد بذلهم فيئنون (خداعا) ويستدرهم فيحنون ولهذا يرسخ الذل في الأمم التي يكثرون فيها ويزدادون ثراءاً.. أما الفقراء فيخافهم المستبد خوف النعجة من الذئاب، والفقراء كذلك يخافونه خوف دناءة) أما رجاله فهم رجاله في كل حالة (ان وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الأمة) (وضع الناس الحكومات لأجل خدمتهم والاستبداد قلب الموضوع فجعل الرعية خادمة للرعاة.. فقبلوا.. وقنعوا!). ثم هو يواجه ما يروجه رجال المستبد بوضوح مكرراً ما سبق الإشارة إليه بإيجاز (فيقولون مثلاً: الاستبداد وتحت مسميات أخري مثل مسميات سليمان وغيره من الطغاة - يلين الطباع ويلطفها والحق أن ذلك يحصل عن فقد الشهامة لا عن فقد الشراسة) والارادة!
ويقولون الاستبداد يعلم الصغير الشأن الجاهل حسن الطاعة والانقياد للكبير الخبير والحق ان هذا عن خوف وجبن لا عن اختيار وطاعة.. ويقولون هو يربي النفوس علي الاعتدال والوقوف عند الحدود.. والحق أن ليس هناك غير انكماش وتقهقر.. ويقولون الاستبداد بقلل الفسق والفجور والحق أنه عن فقر وعجز لا عن عفة وتدين، ويقولون يقلل التعديات والجرائم والحق أنه يمنع ظهورها ويخفيها.
وفي هذه التعرية يقف بثبات عند مسألة الدين والأخلاق بقوله (إن كل الأمم المنحطة من جميع الاديان تحصر بلية انحطاطها السياسي في تهاونها بأمور دينها ولا ترجو تحسين حالتها الاجتماعية إلا بالتمسك بعروة الدين تمسكاً مكينا ويريدون بالدين العبادة.. ونعم الاعتقاد لو كان يفيد شيئاً لكنه لا يفيد أبداً.. لأنه قول لا يمكن ان يكون وراءه فعل.. وذلك أن الدين بذر جيد لا شبهة فيه فإذا صادفه مغرساً طيباً نبت ونما.. وإن صادف أرضاً قاحلة مات وفات .. وما هي أرض الدين؟ أرض الدين هي تلك الأمة التي أعمي الاستبداد بصريتها وأفسد اخلاقها ودينها حتي صارت لا تعرف معني غير العبادة والنسك اللذين يكون زيادتهما عن حدهما المشروع أضر علي الأمة أكثر من نقصهما) والتطرف وما جره الآن علي الامة من أهوال خير دليل - ويكمل (ما أجدر الأمم المنحطة ـ المنحطة يقصد بها المتخلفة - أن تلتمس روءها من طريق إحياء العلم.. وإحياء الهمة) والهمة أي للإرادة.
لم يترك الكواكبي باباً من أبواب مواجهة الاستبداد واستنهاض الأمة إلا طرقه. ولننظر إلي هذا القول الفصل (الشرق مريض.. لماذا؟ من قائل الشرق مريض وسببه الجهل ومن قائل الجهل بلاء وسببه قلة المدارس.. ومن قائل قلة المدارس عار وسببه عدم التعاون علي انشائها من قبل الافراد أو ذوي الشأن.
وهذا أعظم ما يخطه قلم الكاتب الشرقي كأنه وصل إلي السبب المانع الطبيعي والحقيقة أن هناك سلسلة أسباب أخري يتم تجاهلها - لان حلقتها الأولي (الاستبداد).
نعم الاستبداد أصل كل بلاء ما أتينا علي ذكره أو لم نأت أو لم نتوقف عنده تفصيلاً مثل العداء السافر للعقل وللعلم وللعدالة وخلط السياسة بالدين افتئاتاً.. والعداء للتجديد عامة وكراهية معني الوطن والشراكة الطبيعية في ثرواته الطبيعية.. إلي آخره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف