المساء
مؤمن الهباء
محمود بسيوني
صعب جدا علي الإنسان أن يتحدث عن صديق عمره ورفيق دربه بأنه أصبح ماضيا بعد أن كان يمثل له الحاضر كله.. خصوصا إذا كان هذا الصديق الرفيق يشغل حيزا كبيرا في حجم الحضور والتأثير.. ويشكل عونا وسندا أمام تقلبات الحياة وأمواجها المتلاطمة.
هذا هو بالضبط حالي مع صديقي الكاتب الصحفي الكبير الاستاذ محمود بسيوني رئيس التحرير الأسبق بمؤسسة دار التعاون الذي افتقدته بالأمس بانتقاله إلي جوار ربه. وسوف افتقده ما بقي من عمري.. لكنني أحتسبه عند الله عز وجل أخا كريما طيب القلب. عفيف النفس. نقي السريرة.. لا أزكيه علي الله.. لكنني أشهد بما رأيت وعلمت.
لقد وهبه الله نعمة الرضا والقناعة والصبر والتسامح والعفو.. فحاز الكثير من الأخلاق الحميدة التي أرتضاها الله لعباده الصالحين. وبرأه سبحانه وتعالي من الأمراض التي تصيب كثيرا من المنتسبين لمهنة الصحافة والإعلام. وأهمها التعلق بهوس الشهرة. والجري وراء المال وجمعه بكل السبل. والسعي لحيازة النقود والأبهة.. كان معنيا أكثر بالكلمة التي يكتبها وما تحمله من صدق وأمانة.. وكثيرا ما كان يتوقف ويتأمل في قول الله تعالي: "إليه يصعد الكلم الطيب. والعمل الصالح يرفعه".. فيقول: انظر.. الكلم الطيب يصعد بذاته إلي المولي عز وجل في حين أن العمل الصالح في حاجة إلي تدخل قدرة الله لترفعه.. وهذا تأكيد إلهي علي قوة الكلمة ومكانتها.
كان رحمه الله نموذجا للصحفي المثقف الذي يحمل هموم أمته علي كتفيه. المخلص لدينه ووطنه. صاحب القلم الحر الشريف الذي لا يداهن ولا يتزلف. ويكتب بضمير حي وفكر مستقيم.. لم ينشغل بتوافه الأمور. ولم يدخل في معارك جانبيه. ولم يفحش في القول أو التعبير أبدا.
شغلت القضية الفلسطينية الجانب الأكبر من تفكيره وكتاباته. وكان خبيرا بتاريخ النضال العربي من أجل تحرير الأرض السليبة وحقوق الشعب الفلسطيني.. مشاركا في الندوات والمؤتمرات التي تعقد لدعم القضية الفلسطينية في الداخل والخارج.. كما أعطي قسطا وافرا من كتاباته لتطوير الفكر التعاوني والتنمية الزراعية باعتبارها عماد الحياة في مصر.. وساعده في ذلك انه كان قريبا جدا من اثنين من أعمدة الثقافة.. والفكر الاستراتيجي.. هما العلامة الدكتور جمال حمدان والكاتب الكبير محمد صبيح مؤسس ومنظر الفكر التعاوني في مصر.
كان من حسن حظي أن ألتقي الاستاذ بسيوني في مقتبل حياتي المهنية.. وأتعرف إليه في الاجتماعات والمؤتمرات التي كنا نحضرها بحكم عملنا الصحفي. وقد كانت لديه قدرة عجيبة علي الانفتاح والتعارف والتألف السريع مع الآخرين.. علي عكس ما أنا عليه من تحفظ ووسوسة لم أتغلب عليهما حتي الآن.. ورغم فارق السن فقد اكتشفنا أشياء كثيرة تقربنا وتجمع بيننا.. ثم اكتشفنا اننا جيران في السكن.. يفصل بيننا الشارع ليس أكثر.
ومن خلاله تعرفت علي الضلع الثالث في صحبتنا.. المرحوم الاستاذ جلال عيسي مدير تحرير الأخبار ثم رئيس تحرير مؤسسة الشعب.. وكان جارا لنا أيضا.. عشنا معا سنوات جميلة في صحبة رائعة إلي أن فرقنا الموت.
نعم الموت.. الموت أقوي من الحياة.. هو هادم اللذات كما وصفه رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم.. وهو مفرق الجماعات.. لكنه لا يقدر علي "الذكري" التي ستظل واحة وارفة للمتعة.. وعصا يتوكأ عليها الإنسان ليكمل مشوار الحياة متوازنا صلبا.
أقر بنعمة الله علي أن رزقني صديقا صدوقا جميلا وفيا مثلك يا أخي في مسير حياتي.. واشفق علي من حرم من هذه النعمة الجليلة فعاش حياة قاحلة جدباء.
رحمك الله رحمة واسعة يا أخي.. وغفر لك ذنوبك وسيئات أعمالك.. وجعل الجنة مثواك.. تدخلها راضيا مرضيا... مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وحسن أولئك رفيقا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف