المصرى اليوم
ضياء رشوان
من أين أتى كل هذا التطرف والعنف؟
بدا ملحوظاً خلال العقدين الأخيرين، وبخاصة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك، أن هناك توجهات متصاعدة لدى الجماعات والتنظيمات العنيفة المنتسبة للإسلام نحو القيام بأعمال عنف وتفجير دموية تصيب المدنيين، واختطاف رهائن وقتلهم فى عديد من مناطق العالم. والحقيقة أن ممارسة الغلو والتطرف من جانب هذه الجماعات والتنظيمات لا تعكس جوهر ثقافة المجتمعات الإٍسلامية وحقيقة فهمها للدين الإسلامى. فظاهرة العنف والغلو والتطرف هذه يمكن تفسيرها بخليط من العوامل الفكرية والسياسية والنفسية تؤدى إلى تلك الممارسات المدانة والخارجة ليس فقط عن قواعد القانون الدولى الإنسانى، بل أيضاً عن القواعد العامة التى وضعها الإٍسلام للحرب والقتال.
ولعل العامل الأول الرئيسى الذى ساهم فى تشكيل تلك الظاهرة هو الطبيعة العامة لقراءة تلك الجماعات والتنظيمات لنصوص الإسلام المقدسة وتاريخه الطويل، حيث يغلب عليها الأخذ بظاهر النصوص وليس بأسباب نزولها، والجنوح نحو تعميم ما يمكن استنتاجه عنوة منها دون تمحيص عقلى أو قياس تاريخى أو موضوعى. ويغلب على تلك التنظيمات والجماعات فهمها للإسلام والنصوص القرآنية الكريمة بطريقة تؤدى بها إلى النظر من خلالها للأفراد والمجتمعات والدول من منظور صحة العقيدة فقط، فى حين لا تلقى اهتماماً يُذكر بما هو دون ذلك من مستويات ومصادر فقهية وشرعية. كذلك فإن استغراق هذه المجموعات فى النصوص الإسلامية المقدسة وحدها، وبهذه الطريقة الشكلية فى الفهم والقراءة، دون الواقع الاجتماعى الداخلى أو السياسى الدولى الذى من المفترض أن تتفاعل معه تلك النصوص وتؤثر فيه بالإيجاب- يحول دون استيعابها حقيقة التفاعلات المحيطة بها فى الواقعين الداخلى والخارجى، ويجعلها أسيرة لنصوص تقوم بتفسيرها حرفياً وبظاهرها فقط دون اللجوء لأى مناهج أخرى إسلامية الأصل فى هذا التفسير والإسقاط على الواقع.

وربما تكون أصول التعليم «المدنى» العام لمعظم المنتمين لتلك الجماعات والتنظيمات وليس التعليم الدينى المتخصص، على خلاف ما يتصور كثيرون، أحد أسباب عدم إلمامهم بمختلف مدارس الفكر الإسلامى وفرقه ومذاهبه بما يحول بينهم وبين مقارنة ما يعتقدونه من رؤى وتفسيرات معها، فيتبين لهم مواضع الخطأ والصواب فيه. ومن الواضح من متابعة الإنتاج النظرى لمعظم تلك الجماعات والتنظيمات أنه منحصر فى نفس المدرسة الفكرية الدينية المتشددة دون أى تأثر بمختلف المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية الأخرى، بما يوحى بعدم اطلاع من أنتجوا هذا الفكر على إنتاج تلك المدارس أصلاً. فبالنسبة لهؤلاء تمثل بعض النصوص القرآنية والنبوية وآثار السلف المختارة والمجتزأة من سياقها القرآنى العام ومن أسباب نزولها ومن علاقتها بفقه الواقع، المعين شبه الوحيد لجلب الأفكار والخبرات التنظيمية والحركية. ويدفع ذلك النوع من التأويل والقراءة هذه الجماعات والتنظيمات إلى الاعتقاد بأن معظم- ولدى بعضها جميع- المجتمعات والدول المسلمة الحالية قد عادت إلى حالة الجاهلية التى سبقت ظهور الإسلام. وبالتالى فإن تلك التنظيمات والجماعات تعتقد أن العنف الدينى، أو الجهاد كما تسميه، هو الوسيلة الوحيدة تقريباً لديها باعتبارهم «العصبة المؤمنة» التى ستعيد الإسلام إلى بلاده وتدفع عنها عدوان أعدائه الخارجيين.

وعلى قاعدة هذا العامل الأول المركزى تقوم العوامل الأخرى التى شكلت تلك الظاهرة بأفكارها وممارساتها. فقد بدا منطقياً أن تغلق تلك الجماعات والتنظيمات عقولها أمام أى التزام أو تطبيق لأى قواعد قانونية أو إنسانية دولية أو محلية، حيث تعتبر أن كل ذلك يعد منتجاً غربياً غير إسلامى غير ملزم لها. وفى هذا السياق غابت عن بعض تلك الجماعات والتنظيمات الحدود الواضحة بين المدنيين والعسكريين عند خوضها نزاعات داخلية أو دولية مسلحة، فراحت توجه أسلحتها للجميع دون استثناء أو مراعاة لأى قواعد إنسانية أو قانونية وقبلها ضوابط الحرب والقتال فى الإسلام. وتفاقمت تلك الحالة من عدم التمييز لدى تلك الجماعات والتنظيمات بين المدنيين والعسكريين ولا بين من تراه العدو الخارجى والعدو الداخلى، نتيجة للظروف التى أحاطت بالعالم منذ هجمات سبتمبر 2001، حيث سيطر عليها إدراك بأنها فى حالة حرب صفرية مع كتلة واحدة من الأعداء لا فارق بين مدنييهم وعسكرييهم، فكلهم بالنسبة لها جيش واحد يقوم كل من فيه بقتالها بحسب دوره ووظيفته فى تلك الحرب المتواصلة.

وقد جنحت تلك الجماعات نحو استخدام منهجها الحرفى فى تفسير النصوص الإسلامية المقدسة عبر ظاهرها فقط لكى تستخرج فتاوى وأحكاماً تبرر لها استهداف المدنيين وخطفهم وقتلهم سواء كانوا أجانب غير مسلمين أو مواطنين مسلمين. وإلى جانب ذلك فإن الطابع السرى شبه العسكرى لهذه التنظيمات والجماعات وما يحيط بها من حصار أمنى وعسكرى صارم وعزلة عن مجتمعاتها قد سهل لمثل تلك الفتاوى والأحكام الذيوع والتبنى لدى أعضائها ومناصريها دون تمحيص أو مناقشة جادة، وهو الأمر الذى فاقم منه عدم معرفة أو تخصص معظمهم فى العلوم الدينية والتاريخ الإسلامى كما سبقت الإشارة.

وإلى جانب تلك العوامل، فمن الواضح أن ثمة عملية تقمص وإسقاط تاريخية قامت بها بعض الجماعات والتنظيمات الأكثر تطرفاً لدى تعاملها مع المدنيين- وحتى العسكريين- الذين قامت باختطافهم ثم ذبحهم أمام الكاميرات. ففضلاً عن تصور هذه التنظيمات والجماعات أن هذه الوسيلة الشنعاء تبث الرعب والفزع فى «صفوف الأعداء» وتثبط من عزيمتهم فى قتالها، فالمرجح أن إيغالها فى التمثل بمراحل الإسلام الأولى، وبخاصة فى العهد النبوى قد دفع بها، بصورة واعية أو غير واعية، إلى تصور أنهم لايزالون يعيشون فى ذلك العصر الذى لم تكن هناك فيه من وسيلة للحرب فى العالم كله سوى السيوف والرماح، وأنهم حين يقتلون أو يذبحون بعض «هؤلاء الأعداء» بنفس تلك الأدوات فهم أقرب ما يكونون إلى «الصحابة»، وأنهم يحاربون فى الوقت الحاضر نفس الحروب والغزوات التى خاضها هؤلاء منذ أربعة عشر قرناً. هذه المحاولة أمام الكاميرات- الواعية أو غير الواعية- لبعث عصر مضى، وكانت قواعد الحرب والقتال فيه تستلزم ذلك، تبدو متناقضة مع بقية المشهد نفسه، حيث نرى أن من يقومون بهذا القتل غير الإنسانى للرهائن يرتدون ملابس شبه عسكرية حديثة وليس أردية إسلامية تقليدية، وأنهم يحملون فى أيديهم وعلى أكتافهم نوعيات متقدمة من الأسلحة لم تكن موجودة فى العصر النبوى. وبعيداً عن الكاميرات، التى تنقل مشاهد «القتل الرمزى» حسب النموذج الإسلامى كما تتصوره تلك الجماعات والتنظيمات، وتتوهم أنها تعيش أثناء تصويرها فى نفس زمن النبوة والصحابة بغزواته ومعاركه، فإنها فى معارك «القتال الحقيقى» تعود جماعات عصرية تستخدم كل المتاح لديها من معارف عسكرية وأسلحة حديثة برع بعضها فى تطويرها حسب الظروف التى تُستخدم فيها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف