المصريون
محمد حسين الأنصاري
خواطر عن السياسة الشرعية
من المتعارف عليه في السياسة الغربية أن السياسة هي فن السفالة الأنيقة، وإذا دخلت السياسة من الباب خرجت الأخلاق من الشباك. وفي تعريف آخر: السياسة هي فن تحصيل الممكن بغض النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو دينية. لكن نحن معشر الأخلاقيين، هل تلزمنا هذه التعاريف؟ ما زلت مؤمنا -وأرجو أن أموت على ذلك- بدور كبير للأخلاق والتعاليم الدينية الإسلامية وغيرها في عالم السياسة. نشأت الإشكالية منذ أن أصدر ميكافيلي كنابه الشهير "الأمير" في القرن السادس عشر والذي كان محوره بلا مواربة أن الغاية تبرر الوسيلة، وكان يعكس هذا الكتاب بوضوح تطور درجات العلمنة الذي وصلت إليه مجتمعات أوروبا الغربية أثناء عصر النهضة. فعلى حد تعبير العلامة الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري مرت مجتمعات أوروبا بما أسماه "المتتالية العلمانية" التي بدأت بتنحية الإله عن الشأن العام مرورا بمركزية الإنسان وانتهاء باللامركزية السائلة. أحب أن أوضح أن الظرف المشرقي يختلف اختلافا بنيويا عن المسار الغربي لأن الحيّز الذي كان وما زال متاحا للسياسة في الدولة الاسلامية القروسطية أكبر بكثير من نظيره في العصور المظلمة الأوروبية. السبب الآخر الذي يميز المسار الشرقي هو طبيعة الكتاب الحاكم في مجتمعات الشرق الأوسط: القرآن الكريم، ولا أستطيع أن أدعي أن القران الكريم كتاب في السياسة أو في العلوم الطبيعية. ولكنه كتاب هداية وإرشاد في جميع جوانب الدنيا والاخرة. والسياسة من صميم الشؤون الدنيوية. والقرآن مليء بالتوجيهات الإلهية في عالم السياسة بالتعريف الواسع. فعلى سبيل المثال نتأمل توجيه الله عز وجل لرسوله الكريم بتأليف قلوب المؤمنين: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ أليس هذا التوجيه شكل من أشكال السياسة الاخلاقية. وغلظة القلب هنا والفظاظة ليس المقصود بهما فقط غلظة الطبع وسوء القول ولكن أيضا ينسحب القول على ضرورة اللين والأخذ والرد في شؤون المجتمع وهذا من صميم الفعل السياسي الاخلاقي. ولنتأمل آية قرآنية أخرى متعلقة بأمور العدل حيث يقول رب العزة "ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعدلوا، اعدلوا هو اقرب للتقوى" أي أنت مأمور أن تعدل حتى لو ظلمك الخصم أو شاقك. وألف الفقيه ابن تيمية كتابه "السياسة الشرعية في اصلا ح الراعي والرعية "دائرا ومنطلقا من الآية الكريمة في سورة النساء: ﴿إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾. والحديث يطول حول السياسة الشرعية. "ولكن من المهم الإشارة إلى طبيعة المجتمع الذي تُمارس فيه السياسة الاخلاقية. لم يقل أحد ولا حتى سيدنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه سوف يكون مجتمعا طوباويا أو مثاليا أو ملائكيا. لم تأت الشريعة (النص القرآني وصحيح السنة) لتقيم مجتمعيا ملائكيا ذا أجنحة أو مجتمع يبلغ درجة الكمال في الحب والعدل، فالشريعة تضع لنا المثال المعياري للمجتمع الكامل والإنسان الكامل لكي نظل نسعى إلى الكمال ولن ندركه. وإنما في أثناء المسيرة للكمال نترقى في درجات الإنسانية لنصل إلى أقصى درجة ممكنة -في ظل الظروف الذاتية والموضوعية- من الخيرية. ولم يكن التاريخ الإسلامي من الوجهة السياسية تاريخا مثاليا. ولكن ما دامت المرجعية السياسية الشرعية باقية يظل المجتمع بكليته في حالة عروج باستعارة عبارة صديقنا الدكتور مهدي الدجاني. قال حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي".

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف