الصرخات القادمة من القاهرة إلى بوسطن فى الولايات المتحدة الأمريكية من الأهل والأصدقاء كلها عن «الغلاء». لم يكن الأمر جديدا كل الجدة، فقد بدأت الموجة قبل المغادرة فى منتصف أغسطس الماضي.
ومع ذلك فإن الحالة بعد أسابيع تبدو أكثر إلحاحا، ولأنها تأتى عادة وسط العديد من الأخبار السيئة المتعلقة بالمدى الذى وصل إليه سعر الدولار، أو بالقريب الذى لم يجد عملا منذ وقت طويل، فإن ارتفاع الأسعار يصبح متضخما كصدى الصوت. زميل أو أكثر من الكتاب استعاروا تعبير «الشدة المستنصرية» لوصف الحال، وأعطتهم كتب التراث تصورات بشعة. وعد الرئيس السيسى بالعمل على تخفيض الأسعار خلال شهرين فيه الكثير من شجاعة القائد لسببين: لأنه لا أحد فى هذه الأيام يمكنه الحديث، فضلا عن الوعد، بانخفاض الأسعار؛ ولأن فترة الشهرين لا تبدو وكأنها فترة طويلة تسمح بتغييرات هيكلية فى الاقتصاد تجعل سعر السلعة الضرورية فى متناول اليد. صحيح أن الوعد الرئاسى استند إلى عمل يجرى على الأرض، ومشاريع يتم الانتهاء منها تنتج الأسماك والغذاء، وفى النهاية زيادة للعرض على الأقل فى السلع الغذائية بحيث يواجه الطلب عند مستوى معقول من السعر. ولكن المسألة ربما تكون أكثر تعقيدا مما تبدو لأنها لا تتعلق بتخفيض أسعار الغذاء والسلع الرئيسية للشرائح غير المحظوظة فى المجتمع، وإنما هى مرتبطة بالتوازن الاقتصادى للدولة كلها.
«الغلاء» أو «التضخم» بالتعبيرات الاقتصادية هو حالة ينتصر فيها الطلب على المعروض من السلع؛ وفى هذه الحالة تكون النقود المتوافرة باحثة عن بضائع نادرة. وهكذا كما علمونا فى الاقتصاد يظل سعر السلعة، والسلع، يرتفع حتى يتوازن مع الطلب الموجود. ولكن هذه ليست ساحة لدروس الاقتصاد أكثر منها مكانا للنظر إلى الحالة المصرية ككل، والبحث فيها عن أوجه الخلل الهيكلى قبل العارض. العارض واضح فى تدهور قيمة الجنيه المصرى إزاء الدولار الذى هو عملة الاستيراد الرئيسية؛ فإذا ما ارتفعت قيمتها نتيجة تزايد الطلب عليها فإن السلع المستوردة سوف ترتفع قيمتها. هنا فإن الأعراض لابد وأن تبحث عن الأسباب الهيكلية التى هى اثنان: أولهما أن هناك ثمنا للثورة، ونحن لدينا ثورتان، وما بينهما لم تكن فترة مثمرة أو منتجة، وإنما نزيف من الخزانة العامة حتى وصلت إلى عجز كبير. وثانيهما أن هناك ثمنا للإنجاب الكثيف، وخلال فترات الثورة وهتافات ميدان التحرير، ولأسباب لم يدركها العلماء بعد، حصلنا على عشرة ملايين من الزيادة السكانية. أصبحنا دون إعلان منا بالرغبة، بلد المائة مليون نسمة قبل نهاية العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين.
«الغلاء» فى الأسعار يشبه ارتفاع درجات الحرارة فى الطقس، يظن الإنسان أنه يستطيع التعايش معها، ولكنها عن درجة معينة تصبح مستحيلة التحمل. وكما يحدث مع المناخ من احتباس حراري، فإن الأسعار تحدث ذات الاحتباس من خلال القروض التى يسعى إليها الإنسان للتخفيف من الحالة حتى ولو لفترة قصيرة. القرض هنا يلعب دور المروحة أو حتى النافذة أو أحيانا جهاز التكييف؛ ولكنه دور مؤقت لأنه مع استمرار الارتفاع الحرارى فإن التكنولوجيا لا تصبح مفيدة، بل إنها تكون مكلفة للغاية. النتيجة فى النهاية أن كل العلاجات المؤقتة التى لا بأس بها لتجاوز اللحظة؛ إلا أنها لا تحقق العلاج المطلوب مع مرور الزمن. فالحقيقة هى أن جوهر الموضوع يكمن فى التوازن بين ما يكسبه الإنسان، ومدى توافر السلعة فى الأسواق. ويصبح الحل المنطقي، والهيكلي، أن يكسب الإنسان أكثر مما ترتفع الأسعار لأن السلعة غير متاحة بما يكفي.
الحل على جانبى المعادلة أن تكون هناك قيمة أعلى للعمل من ناحية، وزيادة فى عرض السلع من ناحية أخري. العالم وجد حلا لزيادة عرض السلع وهو «المنافسة» بين منتجين كثر فينخفض السعر إلى حدود دنيا. ومثل ذلك لا يمكن أن يحدث عندما يخرج جزء كبير من الطاقة الإنتاجية للبلاد إلى خارج السوق؛ وهى حالة من الشلل وردت مع الثورات، ولا تزال نتائجها مستمرة. ومع كل التقدير لما سوف تقوم به القوات المسلحة من جهد لتخفيض أسعار سلع أساسية، فإن رفع الغضب عن الناس لن يكون ممكنا، والأهم مستمرا، إلا إذا أعيد تفعيل كل الطاقة الإنتاجية للدولة. التفعيل هذا يحتمل معنيين: أولهما أن تعود المصانع والمزارع والورش والمحال إلى سابق العمل بكل طاقتها الإنتاجية؛ وثانيهما أن يعود ما توقف إلى العمل مرة أخري. وفى بلد المائة مليون نسمة فإنه لا بد من حل لأن الغلاء لم يعد نسمة عارضة، ولا هو أمر طاريء، وإنما هو حالة تسعى إلى الاستقرار حتى تصير من طبائع الأشياء.
المنافسة فى الإنتاج، مع ارتفاع الإنتاجية، تصير أقصر الطرق لارتفاع عائد العمل، أى الأجر الذى ينبغى أن يحسن استخدامه برشد وتناسب مع الواقع والمتاح، مع التمييز ما بين المهم والأكثر أهمية. فالضرورة لها أحكامها كما يقال، والغلاء لا يمكن تجاوزه إلا إذا عملت كل الأطراف كما ينبغى لها أن تعمل: المنتج والمستهلك، والحكومة والسوق. مثل كل ذلك يبدو الآن بديهيا، ولكن ما هو بديهى لا يناسب كثيرا مقتضى الحال؛ ولكن المؤكد أن الصراخ والهتاف وانتزاع مزايا مؤقتة لن تحل أبدا المعضلة الكبري، وهى الخلل الواضح فى توازن الأطراف الأساسية للاقتصاد المصرى من سكان وإنتاجية لأسباب كثيرة نعرفها جميعا ولكننا أحيانا نتجاهلها. تلك هى المسألة؟!.