جابر عصفور
تعقيب من الأستاذ رجائى عطية
ما إن قرأ صديقى العزيز الأستاذ رجائى عطية, المحامى المعروف والمفكر المرموق، ما كتبته عن رواية المستشار أشرف العشماوى «تذكرة وحيدة للقاهرة» وما جاء فيها من معلومات عن أهل النوبة،
حتى هاتفنى تليفونيا بخصوص ما أشرت إليه من ظلم واقع على أهل النوبة على مر العصور، موضحا لى معلومات جديدة ومشيرا إلى مقالة سبق أن نشرها فى كتابه الذى أصدرته دار الهلال فى «سلسلة كتاب الهلال» فى يونيو 2009. وكان من أول الموضوعات التى تتصدر الكتاب مقالة بعنوان: «النوبة: قطعة غالية من قلب الوطن». وقد نُشرت هذه المقالة فى الأهرام بتاريخ 27/11/2008. وتشير المقالة تفصيليا إلى عدد خاص أصدره مركز توثيق التراث بعنوان: «النوبة عبر عصرين» وهو يعتمد كل الاعتماد على صور رصدتها عدسة الفنان «أنطون ألبير» على مدى سنوات، مسجلا فيها حياة أهل النوبة فى الجنوب وتحولات مرحلة التهجير والاستيطان التى مر بها المجتمع النوبى، مؤكدا أن هذه الصور المبدعة للفنان «أنطون ألبير» قد حفظت خصائص البيئة الطبيعية التى عاش فيها النوبيون، وما تخللها وصاحبها من فنون تشكيلية ورسومات ولوحات ونقوش وبيوت ومساجد ومآذن ومدارس ودور مناسبات وأسواق وحلى وأوان فخارية ونحاسية وأدوات صيد وقنص وزينات وطنابير موسيقية, والكثير مما تشكل منه تراث النوبة الحضارى والطبيعى على امتداد آلاف السنين. ولا شك أن بعض هذا التراث ضمه متحف النوبة الذى أقيم حديثا بفضل الفنان فاروق حسنى.
وينطلق الأستاذ رجائى عطية فى مقاله ليتحدث عن بداية تعرض تراث النوبة للتبديد أو الضياع. وكانت البداية فيما يقول- مع إنشاء خزان أسوان عام 1902، ووقتها كانت النوبة تتشكل من 39 قرية على امتداد 350 كيلو مترا على نهر النيل، ولكن مع ارتفاع منسوب المياه خلف الخزان، تعرضت عشر قرى للغرق، ومات عدد من السكان الذين رفضوا ترك منازلهم. ومع تعلية 1912، اختفت ثمانى عشرة قرية أخرى، ومن ثم غرق الأهالى الذين رفضوا ترك مساكنهم، فماتوا مع مواشيهم غرقا تحت المياه التى غمرتهم وأغرقتهم. وفى التعلية الثانية عام 1933 لجأ النوبيون إلى بناء مساكنهم على قمم الجبال. وعندما بدأ بناء السد العالى عام 1960، كان المتبقى من قرى النوبة مهددا بالاختفاء فى البحيرة الصناعية خلف السد. وبدأ تهجير سكان النوبة وتوطينهم فى الشمال بكل من كوم أمبو ومركز ناصر وإسنا، وصار ذلك فى موازاة الحملة العالمية التى قادها الوزير العظيم ثروت عكاشة بالاشتراك مع اليونسكو لرفع معبد أبى سمبلذ بعد تقطيعه- من مكانه إلى حيث تم إعادة تجميعه بأعلى الجبل قبل أن تغمره المياه. وفى أثناء الانشغال بتوابع البحيرة وارتفاع منسوب المياه، أخذ المصور الفنان «أنطون ألبير» يجوب قرى النوبة قبل أن تغمرها المياه، ليسجل الحياة والناس بطبائعهم وتقاليدهم وعاداتهم ومنتجاتهم ومعالم تراثهم المتراكم عبر خمسة آلاف سنة. وظل هذا العمل الرائد للفنان «أنطون ألبير» متاحا للخاصة إلى أن نشره مركز توثيق التراث التابع لمكتبة الإسكندرية فى مجلد رائع، وأعلن المركز أن هذا المجلد مقدمة لمجلدات أخرى سوف تصدر بعده. وهى مجلدات لا أعرف هل صدرت فعلا أم لا؟ فالإجابة عند مركز تحقيق التراث وعند الصديق فتحى صالح مدير المركز.
ويشير الأستاذ رجائى عطية إلى أن النوبة مرت بمراحل مختلفة فى تاريخها الطويل إلى أن انتهى بها المطاف منذ القرن الثامن عشر إلى الأرض الواقعة على ضفاف النيل بين الجندل الأول بـ«أسوان» جنوب مصر، والجندل الرابع بـ «مروى» شمال السودان، وعلى امتداد نحو ألف كيلو متر جمعت بين المصريين والسودانيين فى إخاء دائم عبر عن التمازج التام الذى شكله أهل النوبة، والذى أشارت إليه رواية أشرف العشماوى «تذكرة وحيدة للقاهرة» عندما أشارت إلى الفواصل الجغرافية المصطنعة التى فصلت بين أهل النوبة فى الجزء المصرى وأهلها الذين أصبحوا مواطنين سودانيين فى أرض الدولة السودانية التى انفصلت عن مصر، بعد أن كان البلدان بلدا واحدا، وكان يطلق على الملك المصرى ملك مصر والسودان، إشارة إلى هذا التمازج التام فى نسيج بنية هذا الجزء الذى انقسم سياسيا ما بين الشمال والجنوب. وهو ما تشير إليه الرواية من انقسام أسرة «عجيبة سر الختم» ما بين أقصى الجنوب المصرى ومدينة حلفا السودانية. وقد سجلت عدسة الفنان المصور «أنطون ألبيرس» فيما يقول الأستاذ رجائى عطية- ووثقت جوانب عديدة من الحياة فى النوبة قبل التهجير وفى أثنائه وبعده. كما سجلت مراحل إنشاء السد العالى، ونقل معبد أبى سمبل، وحفظت بالصورة ما يحمله تراث النوبة من خصوصية فى اللغة والفنون والآداب والعادات والتقاليد والمفاهيم وأساليب الحياة، إضافة إلى الظروف التى مر بها أصحاب هذا التراث من الأقدمين والمعاصرين. ويشير الأستاذ رجائى عطية إلى ما فعله مركز توثيق التراث فى عرضه تاريخ النوبة فى مجلد بعنوان: «النوبة بين عصرين» عارضا أهم المشاهد فى هذا التراث لأعين المتلقين، كاشفا عن المعارف الخاصة بالأبعاد الثقافية لهذا الجزء العزيز من التاريخ المصرى.
ومن هذا المجلد ومن متحف النوبة، نعرف أن للنوبة لغة قديمة جدا، كان يستخدمها بناة معبد أبى سمبل قبل ثلاثة آلاف سنة، وفيها إيماءات لمنازل الشمس فى واجهة المعبد. ويذكر الأستاذ رجائى أن كاميرا «أنطون ألبير» تنقل رسومات الحيوانات وأساطيرها على الجدران، وهندسة المبانى النوبية، ومصاطب البيوت ومظلاتها الجانبية ومساجدها ومآذن القرى وما فيها من رسوم ونقوش وحفلات العرس وما تعبر عنه الرسوم المنقوشة عنها، فضلا عن معلقات الأسقف و«الشعاليق» التى كانت تستخدم فى حفظ بعض الأطعمة. أما آلة الطنبورة التى التقطتها عدسة الفنان «أنطون ألبير» فهى أقدم آلة موسيقية عرفها النوبيون، ويقال إن منشأها كان فى النوبة، وهى آلة وترية خماسية الأوتار قد يزيدها بعض العازفين أحيانا.
وأكتفى بنقل هذا عن مقالة صديقى رجائى عطية، وكلها معلومات صحيحة تستحق الإشادة بما أضافه إلىّ، فمنحنى معارف كنت أجهلها بلا شك. لكن يبقى الموضوع الأساسى الذى كشفت عنه رواية أشرف العشماوى، وهو الغبن الواقع على أهل النوبة، والإهمال الفاجع من الدولة لهم عبر أكثر من عصر، فمنذ أن بدأ بناء خزان أسوان فى مطلع القرن العشرين والظلم يتراكم على أبناء هذه المنطقة التى لم يمنح سكانها تعويضات مناسبة عما أصابهم من أضرار. فقد كانت هذه المعونات تتداخل فيها البيروقراطية المصرية المعروفة بفسادها عبر العصور، كما كانت القرى الجديدة, التى بنيت لهم بعد بناء السد أو فى أثناء البناء، بعيدة جدا عن مجرى نهر النيل الذى كان شريان الحياة لقرى النوبة كلها ومصدرا أساسيا من مصادر الرزق. ولم تعالج الحكومة المصرية هذه الأخطاء الفادحة والكارثية معالجة جذرية إلى اليوم، فلا يزال أهل النوبة واقعين تحت مطرقة الإهمال والتهميش والتمييز الاجتماعى. وهم فى ذلك لا يختلفون نوعيا عن أقرانهم من سكان الجنوب المصرى الذين لا يزالون مهمشين فى أغلب خطط التنمية البشرية والاقتصادية فى مصر. ولولا هذه الحقيقة ما امتلأت الكتابات القصصية التى تركها لنا كتاب رائعون مخلصون لمسقط رؤوسهم فى أرض النوبة، من مثل صاحب «الشمندورة» محمد خليل قاسم، وحجاج أدول ويحيى مختار والمرحوم إدريس على. ولا شك أن صديقى الأستاذ رجائى عطية لو راجع الأدب النوبى لتجلت له أبعاد المأساة النوبية التى لا نعرف تفاصيلها نحن أبناء الوجه البحرى؛ حيث إننا لا نزال واقعين تحت دعايات الحكومات المتعاقبة بإنجازات وإصلاحات وهمية. فالذى يعرفه سكان أهل النوبة إلى اليوم هو التمييز والإهمال على كل المستويات، فلا مدارس كافية ولا مستشفيات ولا جامعة خاصة بهم ولا رعاية اجتماعية لهم. ولولا هذا لما كانت قرى النوبة طاردة لسكانها الذين لا يتوقفون عن الهجرة إلى الشمال، فمواسم الهجرة لا تنتهى، وإلى الآن لا نرى منهم الكثيرين فى المناصب اللائقة. وهذا كله يعنى أن هناك غبنا وظلما بالغا وقع على أبناء النوبة بخاصة وأبناء الجنوب بعامة.
ولكن يبقى أن أشكر صديقى الكبير والمفكر المرموق رجائى عطية على تعقيباته وتصويباته التى أستنير بها دائما وأقدرها كل التقدير. وهذا هو بعض ما يجعلنى أراه قيمة كبيرة وقامة شامخة فى ثقافتنا العربية المعاصرة.