الوطن
سهير جودة
مناخ الانكسار وإرادة الانتصار
بين أجواء هزيمة 67 وانتصار 73 وبين المرحلة الحالية متشابهات فى المعانى إن لم تكن فى التفاصيل، فكيف انتصرنا فى 73 فى لحظة كان هناك عنصر المؤامرة حاضراً بقوة، وأزمة المجتمع حاضرة، وحالة الضعف الاقتصادى والإحباط النفسى وصدمات النكسة والهزيمة أقوى من الاحتمال وأجواء إشاعات وحرب نفسية على الدولة للدرجة التى جعلت «عبدالناصر» يطالب بالكف عن السخرية والتنكيت على الجيش حتى لا تتأثر الروح المعنوية؟!

إذاً الصورة فى صبيحة 67؛ وطن فى نكسة مهزوم، واقتصاد مأزوم، وأُغلقت قناة السويس، وتوقفت الخطط التى كانت تواصل ضخ مشروعات الصناعة والزراعة، مع جيش تم تدميره، كنا أشلاء دولة، فكيف انتصرنا بعد 6 سنوات فقط؟!

المؤكد كانت هناك عناصر قوة أهمها الوعى الشعبى الذى أدرك أن القصة ليست قصة حرب عسكرية واحتلال أرضٍ، ولكن المقصود هدم مشروع دولة ومشروع نهضة ومشروع حياة، فتمسك الشعب بالقائد المهزوم على اعتبار أن ذلك تحدٍّ لكل القوى التى تريد ضرب المشروع المصرى بل والعربى أيضاً، وبالتالى لم يكن هذا الوعى مصرياً فقط، بل كان فى كل العواصم العربية تقريباً، فقد خرجت بها مظاهرات مؤيدة لـ«عبدالناصر»، حيث كان الإدراك أن المقصود هو ألا تكون لهذه المنطقة مساحة تحت الشمس، وألا تكون لها كرامة وجود، وكان «عبدالناصر» هو الرمز، فالوعى المصرى والعربى كان يدرك من أين الخطر ولماذا؟

وتُرجمت هذه المشاعر فى مؤتمر القمة فى الخرطوم بعد ثلاثة أشهر من الهزيمة، حيث اجتمعت الدول العربية على قلب رجل واحد وتجاوزت خلافاتها من أجل هدف داخلى، وكان استقبال «عبدالناصر» أسطورياً لدرجة جعلت وسائل الإعلام العالمية تنشر أنه لأول مرة تحتفل وتمجد أمة قائداً مهزوماً، ولكن الوعى العربى كان يعلن إرادة الانتصار.

ومع الوعى كان هناك توحد الجبهة الداخلية التى كانت تملك هدفاً واضحاً، وقبلت الحرمان، وحدث تشارك شعبى على المستوى المعنوى والمستوى المادى، فكان هناك المجهود الحربى الذى شارك فيه الجميع من المواطن البسيط إلى أعظم الشخصيات مثل أم كلثوم التى زارت العالم من أجل هذا الهدف، وكان وجودها رمزاً لقضية مصر، ومن أبرز عناصر القوة والمكاشفة الحقيقية، فمنذ اللحظة الأولى كان الاعتراف بالهزيمة وتحديد أسبابها، وبالتالى كانت هناك إرادة وجدية العمل على إزالة هذه الأسباب فحدثت تغييرات كبيرة جداً؛ فهناك قيادات كبرى تم تغييرها، وأخرى حوكمت، هذه القيادات شملت عسكريين وغير عسكريين، وتشكلت وزارة ترأسها «عبدالناصر»، وكانت تكليفاتها ومهامها واضحة، وكان الوزراء جنوداً فى معركة كبيرة تضافرت فيها كل موارد المجتمع البشرية لصالح هدف واضح وهو إزالة آثار العدوان، وقسم الهدف لمراحل واضحة؛ أولها مرحلة الصمود، ثم مرحلة الردع، وتمت إعادة بناء كامل للقوات المسلحة على أسس كان العلم فيها والانضباط والروح المعنوية عناوين رئيسية كبرى، وتمت إعادة بناء مؤسسات الدولة بما فيها التنظيم السياسى، وتم إبعاد العناصر الفاسدة أو الجاهلة أو مراكز القوى داخل المؤسسات، وتم إدخال الشريحة الشابة من المجتمع كطرف فى المعركة العامة، فكان هناك التنظيم الطليعى ومؤسسة الشباب، التى كانت نواة لبناء جيل ثانٍ وثالث تولى مهام كبيرة بالدولة فى السنوات اللاحقة.

كما حدث إعادة نظر وتغيير فى زوايا الرؤية فى التعامل مع اللعبة السياسية الدولية، خاصة عندما قبل «عبدالناصر» بجرأة ودون تردد مبادرة «روجرز»، التى وفرت له فرصة لاستكمال بناء حائط الصواريخ. لقد كان الشعب وكانت القيادة تكسب كل يوم مساحة قوة ووجود وإرادة جديدة، فلم يتوقف العمل على الجبهة منذ اليوم التالى للهزيمة، وكانت هناك عمليات على جبهات القتال مؤلمة لإسرائيل بعد شهر واحد، واستمرت دون توقف، وسميت حرب الاستنزاف، والمقصود منها التأكيد للعدو أنه تحت التهديد وأنه سوف يستنزف قواته ومعنوياته بصرف النظر عن الفارق النوعى والكمى فى السلاح، وهذه المعانى يجب أن نتذكرها ونحن نحتفل بمرور 43 عاماً على حرب أكتوبر التى غيرت خريطة المنطقة العربية، فنحن فى لحظة تشابه والمشهد به مقارنة وإن اختلف الأعداء واختلفت التحديات وأصبح فى الداخل أعداء فى غاية الشراسة، ولكن هذه عناصر قوة لا بد من إعادة إنتاجها، خاصة أن المنتج الوطنى الوحيد المكتسح بنجاح عظيم، الذى لا تتوقف ميكنة إنتاجه، هو خلق واستمرار مناخ التشاؤم، وكأننا نعقد صفقات تشاؤمية صباحاً ومساء. نعيش تفاهات وشائعات وأفخاخاً ومصائد وحملات متعمدة ومتعددة لإبقاء هذا المناخ وتوهجه، وطالما لا يوجد مشهد رئيسى فالمشاهد الثانوية -أياً كانت- هزليتها تتصدر المشهد فيصبح «عجينة» وأمثاله هو الحدث والحادث، وتصبح البلطجة والسخرية أسلوب حياة، وكأننا نشارك فى مؤامرة إجهاض التفاؤل مع وجود ضبابية فى المعلومات وغول غلاء الأسعار والقلق الذى أصبح القرين للجميع، نحن فى لحظة نحتاج فيها لفعل وبناء عناصر قوة كى نبنى دولة حديثة بنفس روح وعزيمة أكتوبر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف