* تمر بنا اليوم الذكري الثالثة والأربعون لانتصارات أكتوبر المجيدة وتهب معها نسمات النصر وأسئلة الحاضر والمستقبل.. فهل كانت الأجيال التي ورثت نصر أكتوبر علي قدر هذا النصر.. هل حافظ المنتصرون علي تفوقهم ومكتسباتهم.. وإذا جاءت الإجابة بالنفي وهي قطعًا كذلك.. فلماذا تراجعنا وأفرغنا النصر من مضمونه. وأفلتت منا فرص حقيقية في البناء علي ما تحقق.. شغلتنا زهوة النصر ونشوته عن دروسه وعبره ومقتضيات الحفاظ عليه.. حتي صار السؤال : لماذا خبت فينا روح أكتوبر عقودًا عديدة.. ثم عادت إلينا ومضة تجلت في إنجاز عظيم تمثل في حفر قناة السويس الجديدة خلال عام واحد.. لكننا للأسف فشلنا في إدارة منظومة الصحة والتعليم والغذاء والقمامة وضبط انفلات الأسعار وفوضي السوق.. فشلنا في الانتصار علي بيروقراطية الإدارة في أجهزة الدولة ومرافقها المختلفة.
انتعشت ذاكرة النصر حين كسرنا غطرسة إسرائيل وجيشها الذي لا يقهر بزعمه.. ثم تجددت ذاكرة النصر حين استدعي مخزونه الحضاري رافضًا حكم الجماعة الفاشية فخرجت ملايينه إلي الشوارع في 30 يونيو2013 ولم ترجع إلا بعد إزاحة حكم الإخوان.. أراد الشعب واستجاب الجيش لإرادته. ثم استجمع الاثنان هذه الإرادة في شق قناة السويس الجديدة التي انتظرنا أن تكون منصة إطلاق لروح مماثلة لروح أكتوبر الوثابة لكنها لم تدم طويلاً حتي غرقنا في الكسل والتراخي واللامبالاة..وتلك روح كسولة أظنها ليست روحًا مصرية أصيلة حتي وإن بدت للبعض كذلك.
ما سر نجاحنا في 30 يونيو.. وفي إنجاز القناة الجديدة وشبكة الطرق وإصلاح منظومة الكهرباء المتهالكة ومنظومة الخبز الذي تقاتل عليه الناس رغم سوء حالته في السنوات الماضية.. هل هي روح العسكرية المنضبطة التي لا تقبل بالتراخي والتواكل والفساد والروتين العقيم.. وهل تلك الروح العالية هي سر نجاح قواتنا المسلحة في إنجاز كل ما يوكل إليها من مهمات هنا وهناك.. وهي سر بقاء وتماسك هذه الدولة والحفاظ عليها حتي الآن.. وإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يتم بث هذه الروح في سائر مؤسسات الدولة حتي لا نفقد جهودًا وطاقات هائلة يجري إضاعتها والتفريط فيها بسوء الإدارة والإعداد والتدريب والمحاسبة.
وإذا كانت ظروفنا الحالية وظروف أمتنا العربية في حال تشبه تلك التي سبقت حرب أكتوبر من استنزاف وضياع للحقوق والهيبة..فإن السؤال: أليس حريًا بنا أن نستعيد روح أكتوبر المنتصرة.. أليس ما يهدد وجودنا كبيرًا وكبيرًا جدًا.. ألسنا في مرمي نيران القوي الدولية التي تحارب فوق أرضنا معاركها هي وليس معاركنا نحن.. وهي إما قوي تحاول استعادة مجد إمبراطوريتها الغابرة.. أو قوي تستميت في الدفاع عن مصالحها ونفوذها وأخري تبحث عن موطئ قدم لها في عالم تتشكل قواه الفعالة والمؤثرة علي حساب وجودنا.. أليس ما يراد لنا من تقسيم وتقزيم واستلاب صريح لمقوماتنا ومواردنا أسوأ مما كنا عليه قبيل نصر أكتوبر.. ألم يكن قرار الكونجرس الأمريكي بإقرار قانون ¢جاستا¢ الذي يسمح - في سابقة دولية خطيرة ـ بمقاضاة الدول "والمقصود هنا الدول العربية والإسلامية" التي شارك أحد مواطنيها في شن هجمات 11 سبتمبر ضد أمريكا كافيًا لقرع أجراس الخطر علي مسامعنا نحن العرب حتي نفيق قبل أن نخرج نهائيًا من التاريخ ونصبح أثرًا بعد عين.. أليس ذلك الخطر أدعي لاستعادة روح أكتوبر التي ألفت بين قلوب العرب جميعًا» فناصروا مصر وسوريا وأمدوها بالسلاح والعتاد والمقاتلين.. وقبل هذا وذاك الدعم اللوجيستي والسياسي اللامحدود..؟!
ألا يكفي ما يحاك ضد العرب لاستنهاض روح العروبة والحضارة المنتصرة.. ألا يكفي ما نراه من ضياع دول وتجهيز المسرح لاستدراج أخري في شراك المعارك المفتعلة للإجهاز علي ما تبقي من جيوش العرب ودولهم التي نجت من عواصف الربيع العربي..؟
محنتنا الكبري في عالمنا العربي نتاج ما غرسناه في سنوات ما بعد النصر الكبير الذي أذهل العالم كله. واستعاد الأرض والعرض والشرف العسكري بانتصار حقيقي هو معجزة بكل مقاييس العقل والعلم .. لكننا سرعان ما انشغلنا في الغنائم والمكاسب العارضة وتخلينا عن الأسباب الحقيقية التي خلقت روح النصر في نفوس أشقاها انكسار الهزيمة وظلام النكسة.. لقد بدأ العد التنازلي لذبول روح أكتوبر عندما سلمنا بأن مصائرنا في أيدي غيرنا.. فاستسلمنا لغواية الارتخاء والاستسهال والرهان علي الغير.. ولم نعول علي أنفسنا حتي فقدنا الثقة في قدراتنا. وفرطنا في مقومات نجاحنا. ولم نعد أمة واحدة لها عدو لا يتواني عن امتلاك أسباب القوة والتفوق عليها ولم ييأس في الإضرار بها جهارًا أو من وراء ستار !!
لم نعد أمة واحدة تتكامل دولها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وعلميًا فتفوق عليهم أعداؤهم وهزموهم بالعلم تارة وبالتآمر مرات عديدة. لم تنجح المخاطر علي شدتها في أن تجمعنا علي كلمة سواء. قفز الصغير علي أكتاف الكبير وسولت له نفسه أن يقفز فوق دوره ومكانته. وتغافل الكبير عن امتلاك مقومات ريادته التاريخية فصارت الأمة في مهب الريح تغزوها الأزمات تلو الأزمات. والانكسارات والتراجعات والتنازلات حتي صارت مطمعًا لكل من هب ودبّ.. غرقت أمتنا في بحور الطائفية البغيضة. ونجح أعداؤها في تفجيرها من الداخل بأيدي أبنائها» تارة باسم الدين. وتارة أخري باسم الطائفية والجماعة والعرق.. حتي صار بعضها يناوئ بعضها الآخر. ويضمر له العداوة والبغضاء.. لتدفع الأجيال الجديدة الثمن فادحًا.. فلم تعد بلاد العُرب أوطاني ولا كل العُرب إخواني..كما تعلمنا في المدارس صغارًا !!
ورغم اعتراف أعدائنا قبل الأصدقاء بأن نصر أكتوبر كان معجزة بكل المقياس البشرية لكننا لم نحافظ علي هذا النصر كما ينبغي.. فلم نجد عملاً فنيًا ولا أدبيًا واحدًا يرقي لمستوي تضحيات شهدائنا وأبطالنا البواسل.. فلا أنجزت الدولة ممثلة في وزارة الثقافة موسوعة علمية ترصد تفاصيل هذا النصر. ولا أصدرت سلسلة كتب تسجل كيف تحولت النكسة إلي نصر معجز. ولا قدمت السينما فيلمًا روائيًا ولا تسجيليًا يضاهي عظمة أكتوبر. ويدون مشاهد إنسانية وعسكرية تجسد روعة النصر وحلاوته ومرارة النكسة وآلامها وصعوبات المعارك وتحدياتها. ومعاناة صانع قرار الحرب وكيف مارست مصر خطة الخداع الاستراتيجي كأفضل ما يكون التخطيط والكتمان والسرية..وكيف كان فداء قواتنا وشجاعتها وتضحياتها؟!
وأتعجب كيف تخلت الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدني ومنظماته وقواه الحية عن واجبهم الوطني في بث روح العزيمة في روع أجيالنا الجديدة. وشحنهم بروح أكتوبر وتعريفهم بحجم التضحيات والدماء التي سالت علي أرض المعارك.. وكيف قدم جنودنا البواسل دروسًا في صدق الوطنية وإخلاص العسكرية.. روح أكتوبر التي قال عنها أديب نوبل نجيب محفوظ: ¢ إن انتصارات أكتوبر ثورة وليس معركة فحسب » فالمعركة صراع قد ينتهي بالنصر أو غيره.. لكن الثورة وثبة روحية تمتد في المكان والزمان حتي تحقق الحضارة.. إنها رمز لثورة الإنسان علي نفسه وتجاوزه لواقعه وتحديه لمخاوفه. ومواجهة لأشد قوي الشر عنفًا وتسلطًا.. إن روح أكتوبر لا تنطفئ. وقد فتحت طريقًا بلا نهاية ليست العبور سوي قفزة في تيار تحدياته¢.. انتهي كلام أديبنا الراحل العظيم نجيب محفوظ.. لكن الأسئلة لا تزال حائرة في عقولنا.. هل بقيت جذوة أكتوبر متقدة فينا فلم نفسد أو نتخاذل أو نخذل وطننا حتي تخلف. وساءت أحواله.. لماذا تلاشت روح التحدي في عقود ما بعد النصر ؟! ولماذا تكررت نكباتنا بعد ثورتي يناير و30 يونيو.. فزادت الفتن وكثرت الانقسامات وشاع الجدل والشائعات والاستقطابات. وتراجع تعليمنا. وتدهور اقتصادنا. واعتلت صحتنا..لماذا عجزنا عن الحفاظ علي الروح الحضارية الكامنة في جيناتنا والتي أبهرت العالم في ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يومًا الأولي من عمر ثورة يناير.. قبل أن تطمسها مفاسد السياسة وأطماع الإخوان وسطوهم علي الثورة.. وسرعان ما تجلت هذه الروح في 30 يونيو و"3 . 26" يوليو 2013 برفض مشروع الإخوان والسعي لاستعادة الدولة من براثن الجماعة الإرهابية.. واليوم يحدونا أمل عريض في استلهام هذه الروح العبقرية القادرة علي صناعة التاريخ والتأثير في مجرياته من جديد.. فلسنا حالة مستعصية علي كثرة ما نحن فيه من أزمات بعضها فوق بعض. وهي من صنع أنفسنا وتراخينا وفساد أخلاقنا وطباعنا ولن ينقذنا إلا استعادة الأمل والقدوة والثقة في بعضنا البعض والمصداقية التي تحاول القيادة غرسها فينا.
إن روح أكتوبر لم تمت تمامًا لكنها متوارية تحتاج لمن يخرجها إلي النور.. نلمسها بوضوح في مؤسستنا العسكرية التي يصر البعض للأسف علي الإساءة إليها رغم ما تقوم به من أدوار ناجحة في ملفات كثيرة أخفقت فيها مؤسساتنا المدنية. إلي جوار دورها الأصيل في حماية حدودنا وأرضنا.. لقد بقيت روح أكتوبر حية في وجدان جيشنا الذي نجا مما أصاب الشخصية المصرية من تجريف. وحافظ علي انضباطه وقوته وعقيدته الوطنية ولياقته وتنويع سلاحه. وإنتاج ما يكفيه من مؤن وعتاد. فضلاً علي الإسهام بنصيب وافر في إشباع احتياجات القطاع المدني. وتنفيذ أعقد المشروعات في سرعة وإتقان يبعثان علي الطمأنينة والأمل في إمكانية عبور المرحلة الراهنة بكل تحدياتها..
هذا الجيش العظيم نجح في تحطيم أسطورة وغطرسة جيش إسرائيل المتفوق عدة وعتادًا والمدعوم غربيًا بصورة كبيرة.. هزمه بعزيمة البشر وإيمان الرجال وروح التحدي.. هذه الروح غائبة اليوم في أغلب قطاعات الدولة. وتحتاج إلي من يبعثها من مرقدها.. تحتاج إلي من يصنع القدوة في كل مجال والهمة في كل نشاط فلا نستورد غذاءنا ودواءنا بمليارات الدولارات رغم إن إنتاجهما لا يكلفنا سوي ملايين الجنيهات.
انتصارات أكتوبر لا تزال تخفي كثيرًا من الأسرار والعبقريات والتضحيات. ونرجو أن توليها فضائيات التوك شو مزيدًا من الاهتمام بدلاً من إشاعة روح الانقسام والجدل والتشكيك في كل إنجاز.. فكل منا جندي في معركة البناء والبقاء.. ولن يتقدم وطننا إلا بمضاعفة الجهد والإنتاج واللجوء للعلم والمعرفة والتخطيط السليم لأولوياتنا. والتضحية وإنكار الذات. وصولاً إلي العدالة والحرية والرخاء.. نحن في حاجة إلي انتصار عظيم علي أنفسنا وفسادنا وبيروقراطيتنا وتعصبنا لأنفسنا.. وعلي الإرهاب وداعميه.. نحن في حاجة إلي استدعاء روح أكتوبر في مساندة الدولة لعبور هذه المرحلة الصعبة بروح قادرة علي قهر التحدي والصعوبات مهما تكن.