الأهرام
محمد ابو الفضل
غموض التسويات فى الأزمات العربية
منذ عام تقريبا، رشحت مجموعة من التطورات، جعلت كثيرا من المراقبين يتفاءلون ويظنون أن طريق التسوية لعدد من الأزمات العربية، أصبح مفروشا بالورد، أو على الأقل تراجعت كثافة الأشواك الملقاة على جانبى الأزمات الساخنة، فى كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، ناهيك عن أزمة الرئاسة فى لبنان.
وبعد مضى عام تقريبا، لم تتمكن الدول التى شمرت عن سواعدها للإعلان عن بدء عصر التسويات، من تحريك إحداها عن المكان الذى التى قبعت فيه، برضاء شعوبها، أو دون إرادتهم، المهم أن الحصيلة تكاد تكون صفرا كبيرا، وباستثناء تصاعد أو تراجع نفوذ بعض القوى المحلية والإقليمية والدولية فى هذه الأزمة أو تلك، لم نر طحينا، مع أن الضجيج الذي صاحب التبشير باقتراب التسويات، صم الآذان.

رأينا ارتفاعا فى الأصوات بشأن التوافق على تسوية الأزمة السورية، وسمعنا عن صفقات جرى عقدها سرا بين الولايات المتحدة وروسيا، وملامح منها، مع ذلك لم تتقدم الأزمة خطوة للأمام، ولا تزال الاجتهادات متواصلة حول سبل الخروج، دون تقديم دليل عملى يثبت أن هناك أفقا إيجابيا حقيقيا، يسمح بوضع حد للاقتتال الذى يجرى على الأراضى السورية، التى تحولت، بفعل التداخل الكبير فى الحسابات، والتشابك العميق فى التقديرات، إلى ما يشبه ساحة حرب عالمية، لا أحد يقطع متى تضع أوزارها.

ورأينا تجهيزات خشنة وأخرى ناعمة، لوقف الحرب فى اليمن، وصفعات وتفجيرات ومساومات وتنازلات، ولا تزال مستعرة، وتبحث أطرافها الرئيسية عن بريق أمل ينهى المأساة الإنسانية هناك، ويحفظ لكل طرف ماء وجهه، ولا يظهر أمام الجميع أن الكل رابح أو الجميع خاسر، فتلك محطة لا ترضى الغرور، وتجعل الأرض ممهدة لمواصلة الحرب، وإن توقفت بهذه الطريقة فسيصبح أصحابها والمتورطون فيها على أهبة الاستعداد لدخول جولة جديدة.

ورأينا أيادى متعددة تعبث فى ليبيا، بذريعة البحث عن الأمن والسلام، وأطرافا تكالبت على أراضيها، من الشمال والجنوب، والغرب والشرق، ومؤتمرات عقدت علانية، ومفاوضات جرت من وراء ستار، والنتيجة قتال مستمر، وصراع منهمر، وتوترات لم تخل منها منطقة ليبية، فضلا عن زيارات لشخصيات رسمية من دول مختلفة، وجولات مكوكية لمسئولين دوليين، حاولوا وقف نزيف الدماء فى الظاهر، لكن فى الجوهر ساهمت تحركاتهم فى إطالة أمد الأزمة.

ورأينا فى العراق ما يشبه دولا أخرى تعانى الويلات، بسبب الأطماع الطائفية، والطموحات الإقليمية، وفرض الإرادات الدولية، والعبث بحرماته الاجتماعية، لذلك بقى هذا البلد الذى بدأت معه الموجة الراهنة من الفواجع العربية، رهينة لحزمة من الحسابات أقامت عليها قوى تصورات وسياسات ودشنت ممارسات، جعلته مدخلا لكثير من النكبات، علاوة على نكبته الطائفية المستمرة.

ورأينا الوضع فى لبنان، الذى يعد أقل وطأة، لكن الانسداد الحاصل فى منصب الرئيس، انعكاس طبيعى للتصرفات التى تقوم بها قوى متباينة فى دول الجوار، وربما لم يؤخذ بجريرتها مباشرة، لكنه فى النهاية عانى الويلات من روافدها السياسية والأمنية والاقتصادية، ولم يعد باستطاعة شعبه اختيار رئيس للجمهورية، فقد وضع هذا المنصب فى سلة التراشقات والتجاذبات الإقليمية، وأصبح تغيير بعض المعادلات الخارجية شرطا لزحزحة الانسدادات الداخلية.

البانوراما السابقة، تنطوى على علامات مشتركة ومتكررة، تكشف لأى درجة أن الداء واحد، وربما العلاج أيضا، وإذا كان من السهولة التشخيص، فمن اليسير تحديد الأنواع اللازمة للشفاء من الأمراض المستعصية التى تعانى منها دول محورية فى المنطقة، تعج بالتوترات والحروب.

الغموض الحاصل فى مصير التسويات، يعود في جانب كبير منه إلى عدم توافر الإرادة اللازمة لدى غالبية القوى المنخرطة فى هذه الصراعات، والتى تعتقد أن هناك جولات أخرى مقبلة، وما حدث من تطورات لم يكن كافيا لتحقيق الأهداف، التى فتحت الباب للدخول، أو رسمت الخريطة لنزول هذا الملعب (الأزمة) أو ذاك، خاصة أن ثمة قوي، تحولت إلى قاسم مشترك فى معظم الأزمات السابقة، قد تزداد أدوارها وتطلعاتها، أو تتراجع فى صراع دون آخر، لكن فى المحصلة الأطراف الأساسية متشابهة.

عدم اكتمال البيئة اللازمة للتسوية، أو ما يعرف بنضج واستواء الثمرة السياسية، كفيل بتفكيك أى بوادر للتسوية، وتتصاعد أهمية هذه النقطة، وسط التكافؤ النسبى فى الأدوار، والتقارب فى طبيعة الأوراق التى تستحوذ عليها قوى مؤثرة، وتحكم كل طرف فى مفاصل موجعة لأطراف أخري، وهذه المعادلة كفيلة بردع أى تهور قد يقدم عليه أحد اللاعبين المباشرين وغير المباشرين.

فخطوة واحدة من قطع الشطرنح الحالية، دون حساب النقلة التالية لها، يمكن أن يكون مكلفا بصورة باهظة، للدرجة التى ربما يخسر صاحبها الدور كله، وتضيع عليه جهود سنوات كانت مضنية، عمل خلالها بموجب توازنات دقيقة، حتى يحافظ على وجود قطعه المختلفة على الرقعة الواسعة.

أشد ما يخشاه كثيرون الآن، أن ينسجم اللاعبون مع قطع الشطرنج، ويدمنوا نقلاتها الشيقة، ويصمدوا فترة طويلة، أملا فى تغيير قواعد اللعبة القديمة، بالتالى يمر الوقت دون أن تجرى تسوية عادلة لكل هذه الأزمات، وحتى يحدث ذلك تتواصل عملية نقل وتبديل القطع، إلى أن نصل إلى محو المعالم الرئيسية التى بدأت بها اللعبة الإقليمية والدولية، ويصبح لدينا أكثر من فلسطين عربية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف