أمانى هولة
شجون أكتوبرية - حكايات وطن (88)
مع تساقط أوراق الخريف أمام شرفتى الصغيرة متشحة بألوان الرحيل، مستسلمة لوعد رياح لا تنسى المواعيد ولا تنعى الراحلين.. وككل عام، عبثت أناملى بأوراق النتيجة بحثاً عنه، ذلك اليوم الفارق فى حياتنا فلا يزال أجمل ما نحمل من كبرياء الوطن.. أتوارى من نفسى خجلاً وضآلة أمام رجال صنعوا التاريخ.. تعترينى ذكريات.. كلمات أكتبها استسلاماً لشجون كل عام ثم أضن عليها ببعض النور لتظل حبيسة درج مظلم.. فهل تسمح لى يا قارئى العزيز بأن أفتح درجى الصغير، أنفض التراب عن بعض ما يئن به، أصحبك معى فى رحلة بين حروف اختلط فيها الخيال بواقع لا يقل روعة عنه، ولكن لتترفق بحكاياتى وشجونى؛ فهى طيف من الماضى يلتمس على استحياء أن يذكرنا بما يجب ألا ننساه..
من يكون؟
أنا جندى مصرى.. اسمى محمد.. إبراهيم.. مينا.. يوسف.. زكريا.. عبدالله.. لا يهم، المهم أننى عشت.. فليس كل من أكل وشرب ونام وصحا عاش.. أما أنا فقد عرفت معنى الحياة هناك على الجانب الشرقى.. كنت ورفاقى أقذف بالمجداف يشق مياه القناة كالطوفان الثائر.. أرنو إلى الجنة على الجانب الآخر.. لا أرى سوى هذا الخط الرابض فى الأفق.. التفت خلفى فوجدته.. ذراعه بذراعى يدفع بالقارب كعشرة رجال.. لم أرَه من قبل.. ربما من كتيبة أخرى؟
كنت أريد أن أسأله من يكون، لكن لا أعرف لماذا لم أستطِع..
ألهب حماسنا بصيحة بركان غاضب: الله أكبر.. لتنطلق خلفه النمور المتحفزة: الله أكبر.
وصلنا إلى شاطئ الجنة والنار.. ارتطمنا بالحائط الزائف.. وقبل أن تطوله أيادينا زلزلته صيحاتنا.. ليتهاوى أمام غضبة الحق.. ونفاد الصبر.
وجدته مرة أخرى أمامى.. يقفز كوحش مقبل من الأساطير القديمة.. لا يتردد فى اختراق الأشياء وكأنه كائن أثيرى يتعدى قوانين الطبيعة.
يزأر كأسد جسور.. لتنطلق النسور.. فإذا بالأعداء يفرون تاركين حصونهم وذخائرهم وحتى أسلحتهم وآثار بلل على الأرض أكاد أجزم أنه بولهم..
يدفعنى بعيداً عن لغم فاتك، متنبئاً بانفجاره.. أشعر نحوه بالعرفان فقد وهبنى حياتى من جديد وفرصة أخرى.. فمهمتى لم تنتهِ بعد.
كنت أريد أن أسأله من يكون، لكن لا أعرف لماذا لم أستطع..
تقدمنا وتقدمنا.. حمل كل منا روحه على كفه.. أبلينا بلاءً حسناً وهو دائماً حولنا.. وكلما سقط شهيد جرى إليه يهمس فى أذنه.. ثم يثب كريح ونحن خلفه للثأر.
غابت الشمس والكل صائمون.. حتى رفيقى مينا.. اقتسمنا كسرة الخبز وشربة الماء.. بحثت عنه لأشركه فى حياتى.. يبتسم فى غموض.. يتوارى.. فله رفاق آخرون ينتظرون.
كنت أريد أن أسأله من يكون ولكن لا أعرف لماذا لم أستطع..
حققنا فى عدة ساعات أجمل ما فى الحياة.. عشنا.. فليس كل من يحيا يعيش.. وتلألأت نجوم كثيرة فى السماء دون أن أدرى لماذا كانت تذكرنى بومضة نور فى وجهه الذى ظل يطاردنى فى كل الأشياء.. ظللت أبحث عنه.. وجدته يصلى فى خشوع صلاة خاصة جداً.. جريت إليه فلا بد أن أسأله من يكون..
ابتسم وهو يرنو إلى السماء.. وصوت يملأ الكون.. جنود الله كثيرون.. طرقت بعينى لحظات.. فإذا به قد اختفى
فى طريق العودة كان هنالك فى قاربنا مكان خالٍ، ورفاق، وحكايات كالأساطير.. كل يحكى عن ذلك الرفيق الذى آزره فى المعركة دون أن يراه من قبل.. ثم رحل.
وكان يريد أن يسأله من يكون ولكن لا يعرف لماذا لم يستطع..
تطلعت بوجهى إلى السماء.. شكرت القادر على كل شىء.. تأملت النجوم المتلألئة هنالك فى السماء تذكرنى بومضة نور فى وجهه.. ابتسمت فى يقين، فلدىّ أنا أيضاً حكايات ستعيش معى ما بقى من العمر.. وتبقى بعد الرحيل.. سأرويها للأصحاب والرفاق والأحباب والخلان. وسيتوارثها الأبناء والأحفاد.. وقد رأى قلبى ومضة من الحقيقة.. عندما هانت الحياة.. وأخلص الخلصاء.. فكانت منحة الكون للواصلين هنالك فى دروب الحق.. حيث تتنحى قوانين الطبيعة.. وينكشف الحجاب.. ونقف على الأعتاب فى لحظات انجلاء.. بلا حاجة لسؤال لا يحتاج إجابة عند الواثقين.. لو فتشنا فى داخلنا.. سنعرف يقيناً أن قلوبنا تدرك مَن يكون.