الأهرام
عبد المنعم المشاط
روح أكتوبر والأمن القومى
لا شك أن ملحمة أكتوبر لا تزال تشكل أهم انتصار للشعب المصري وجيشه الوطني في القرن العشرين،
فعملية الإعداد العسكري والتعبئة الشعبية والقيم التي بنيت عليها من إيثار وفداء وانتماء وإخلاص وإيمان بالوطن وثقة في الانتصار، كلها تشكل روح أكتوبر التي عشتها وتمثلتها مع المقاتلين المصريين الذين قدموا أرواحهم فداءً لمصر، لا يرجون جزاءً ولا شكورًا، ولا يسعون إلى ظهور إعلامي مصطنع مقيت، ولا يتاجرون بوطنية زائفة، لقد أقدموا على القتال بعد صبر، وقدموا أنفسهم إلى وطنهم، وعبروا القناة دون خوف، قاتلوا دون ضجيج، وتقدموا على أرض سيناء ببسالة وحب عميق؛ فرحبت بهم سيناء المقدسة كأبناء شرفاء يسعون إلى تحريرها من العدو الصهيوني المغتصب الذي استغلها وكاد يستنفد مواردها.

لقد قررتُ الكتابة حول روح أكتوبر العظيمة بعد ثورة 25 يناير 2011 وثورة 30 يونيو 2013، واللتين فجرهما الشباب المصري ذاته، الوطني الملتزم بحب مصر والمؤمن بمستقبلها، بهدف استلهامها في بناء مصر المعاصرة؛ فإذا كان محمد علي قد استطاع بناء مصر الحديثة بتحريرها أولاً من الاحتلال العثماني وبناء الجيش الوطني الحديث، ومد السكك الحديدية التي لا تزال قائمة حتى اليوم، وإدخال زراعة القطن طويل التيلة الذي كاد ينقرض، فإن الرئيس السيسي لديه الفرصة الكبرى لبناء مصر المعاصرة؛ دولة ديمقراطية مدنية حديثة إقليمية مركزية تستطيع بقدراتها البشرية والطبيعية وجيشها الوطني أن تجذر عوامل التكامل والتآلف والاندماج داخل الوطن العربي، وتحد من عوامل التنافر وتصد مصادر تهديد الأمن القومي العربي سواء تمثلت في إسرائيل أو الإرهاب أو دول الجوار الطامعة وعلى رأسها إيران وتركيا أو التحالف الأمريكي الإسرائيلي أو تهديدات دول منابع النيل، للتحكم في مياه النيل وحدها، يستطيع السيسي بالقطع أن يعيد اكتشاف مصر ومواردها وإمكاناتها غير المحدودة، ومن ثم؛ دورها الإقليمي والعالمي المنتظر، يستطيع كذلك أن يجعل منها مركزًا عالميًا HUB للتكنولوچيا المعاصرة ومنتجًا دوليًا للطاقة الشمسية ومصدرًا نادرًا للجذب السياحي، الشعبي، والنخبوي ليرى العالم آثاره الفرعونية والقبطية والإسلامية الكبرى في مصر.

إن روح أكتوبر تتمثل في “كلنا”، كل المصريين المخلصين لمصر ولمستقبلها ولأطفالها ونسائها وشبابها، مصر الكبرى التي حباها الله بشعب متماسك متحاب، بشعب يفهم متى يثور ومتى يصبر ومتى ينتج، ولكنه شعب أيضًا ينظر إلى قادته بآمال عريضة وينتظر منها إنجازات حقيقية، ويتوقع فيها تفانيًا في حب مصر، ويحتاج من قائده إلى خطاب المشاركة والتعبئة والشراكة، هكذا تستطيع روح أكتوبر أن تجمع الكل في واحد، هو مصر الكبرى.

لقد أدت نكسة 1967 واحتلال إسرائيل كامل سيناء إلى خرق الأمن القومي المصري في بعده العسكري، وكذلك المتعلق بالسيادة على الأرض، وكان لانتصار 1973 الفضل الكبير في إعادة اللحمة إلى الأمن القومي المصري، وعودة السيادة المصرية إلى حدودها الشرقية التاريخية بكل ما يعنيه ذلك من تكامل الدولة المصرية.

إن استدعاء روح أكتوبر لا يعني فقط الإعلاء من الاستراتيچية العسكرية المصرية، ولا الفخر بالانتصار الكبير الذي أحرزناه، ولكنه يعني البحث في بطولات قام بها شباب مصر في سبيل الوطن لا غير، وهو وطن يستحق منا أكثر من ذلك، وهو رسالة إلى المصريين اليوم، الذين لم يشهدوا حربًا ولم يشاركوا في قتال مباشر مع أعداء الوطن، بأن الانتصار ممكن جدًا، بل وضروري جدًا للحفاظ على الأمن القومي في صورته العصرية، والانتقال بالوطن إلى مصاف الدول الكبرى، وهو المكان الطبيعي لمصر قبل غيرها، إن الموقع الچيواستراتيچي لمصر، والذي يتفاعل مع الرؤية الوطنية بدورها المركزي في الإقليم الذي تنتمي إليه والعالم الذي تتفاعل معه، لابد أن ينعكس على مكانة مصر الدولية ورؤيتها لنفسها ورؤية الآخرين لها، إن سمعة المصريين تستمد من سمعة وطنهم، وبالعودة إلى التاريخ، يصير السؤال هل يمكن أن تستعيد مصر سمعتها التي سحرت بها العالم بل وقادته؟ نعم.. ممكن، ولكنه يتطلب مجموعة من الشروط والمقومات التي يأتي في مقدمتها تحقيق الإجماع الوطني حول الصورة التي يبغيها المصريون لوطنهم في المستقبل، ثم الاتفاق حول الأولويات القومية التي تحقق هذه الصورة مع العودة مرة أخرى إلى روح أكتوبر التي تمثلت في تحديد مصادر التهديد ووضع استراتيچية واضحة لمواجهتها ودحرها، ولا شك أن ذلك يتطلب -بادئ ذي بدء- درجة عالية من الانتماء والالتزام والإخلاص. إن تحقيق الأمن القومي المصري والحفاظ عليه يستلزم دائمًا الوعي بالخبرة المصرية النادرة في أكتوبر 1973.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف