يبدو أن أكثر الناس رفعا للشعارات، ودعوة للمباديء، ومناداة بالفضائل، وأمرا بالخير.. قد يكونون، أحيانا، أكثر الناس مخالفة لها، وخروجا عليها، والأسوأ في تطبيقها، والأكثر تحريفا لها عن مواضعها، والابتعاد التام عن تطبيقها.
لقد نهى القرآن عن ذلك نهيا شديدا، ودعانا إلى تطابق القول والفعل. فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)".(الصف).
كثيرا ما توقفت عند هذه الآية الكريمة مبهورا بإعجازها.. إنها تتناول فئة من "أهل الإيمان"، قليلي مطابقة فعلهم لقولهم، حتى إن أقوالهم لا تتفق مع أفعالهم، ومع ذلك فهم فريق من "الَّذِينَ آَمَنُوا" بالفعل.
تصوب الآية أنظارنا تجاه الفعل، فهو الأصل والأساس، إذ يجب ألا يقول الإنسان إلا ما يفعل، وبالتالي "ما يفعله يقوله، وما يقوله يفعله". وليس هناك ذلك التناقض الحاد، والاضطراب المرفوض، المتمثل في: "تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ".
ويا له من جرم ومقت كبير عند الله.. "كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ".. "كَبُرَ مَقْتًا"؛ أي: "قولكم: "نفعل"، ولم تفعلوا؛ مما يُمقت عليه صاحبه أشدَّ المقت؛ أي: يُبغض أشد البغض"، وفق مفسرين.
فمن المعلوم أنه على الإنسان واجبين: أولهما: أمر نفسه، ونهيها. وثانيهما: أمر غيره، ونهيه.. فترك أحدهما ليس رخصة لترك الآخر. والكمال أن يقوم بهما. والنقص أن يتركهما.
أما قيامه بأحدهما دون الآخر, فليس في رتبة الأول, كما أنه دون الأخير، ولم لا، واقتداء الناس بالأفعال؛ أبلغ من اقتدائهم بالأقوال. واقتداؤهم بالأفعال المطابقة للأقوال أشدّ.
قال السعدي: "النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة".
والأمر هكذا؛ لا يصح، ولا ينبغي؛ أن نقول ما لا نفعله، ولا أن نفعل ما لا نقوله؛ لأن هذا يُسمى في الإسلام "جنونا"، أي: خروجا عن المنطق، والعقل.
قال تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ".(البقرة: 44).
إنها أول آية، وفق ترتيب المصحف، يُذكر فيها الأمرُ بالبِر، وهو: "اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى من الإيمان، والعمل الصالح"، بحسب العلماء.
وتتحدث الآية هنا عن فريق عجيب من "أهل الكتاب"، ابتليت به البشرية.. يتلون الكتاب؛ وحي الله، وبمقتضى ذلك: "يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ"، لكنهم، بكل أسف: "يَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ" من ذلك، فلا يأمرونها بالبِر، ولا تعمل أنفسهم به.. درب من الجنون.
لذلك وجه الله إليهم، هذا التساؤل الاستنكاري: "أَفَلَا تَعْقِلُونَ".
قال ابن عباس: "نزلت الآية في يهود المدينة، إذ كان الرجل منهم يقول لصهره، ولذوي قرابته، ولمن بينهم وبينه رضاع من المسلمين: "اثبت على الدين الذي أنت عليه، وما يأمرك به هذا الرجل – يعنون: محمدا صلى الله عليه وسلم - فإنَّ أمره حق". فكانوا يأمرون الناس بذلك، ولا يفعلونه".
وقال قتادة: "كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله، وبتقواه، ويخالفون.. فعيَّرهم الله عز وجل".
ووفق "تفسير ابن كثير": "ذمَّهم اللّه تعالى على هذا الصنيع، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير، ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم. فكلٌّ من الأمر بالمعروف، وفعله؛ واجبٌ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر".
والمراد بـ "الناس" في الآية: العامة من أمة اليهود. و"البِر": الخير في الأعمال، سواء في أمور الدنيا أو الآخرة. و"النسيان" هو الترك، ويكون خلاف الذكر والحفظ.. أي: "تتركون أنفسكم من إلزامها بما أمرتم به غيركم".
إنه توبيخ لهم بسبب تركهم فعل البر، لا بسبب أمرهم بالبر، وهو توبيخ يُتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قال تعالى: "إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ". (مريم:40).