التحرير
حسام مؤنس
دروس فى صعود اليسار وتجديد النخب السياسية.. جيرمى كوربن نموذجا
جاءت نتائج الانتخابات المبكرة على رئاسة حزب العمال التى أجريت مؤخرًا كأحد تداعيات نتائج الاستفتاء بالخروج من الاتحاد الأوروبى واستمرار الخلافات والانقسامات الحادة داخل حزب العمال، لترسخ أقدام الزعيم اليسارى جيرمى كوربن مجددا، بعد أن تمكن من الفوز على منافسه الوحيد أوين سميث بنسبة تقترب من 62% وبما يزيد على النسبة التى حققها فى الانتخابات الأولى فى سبتمبر الماضى قبل أقل من عام على إعادة انتخابه. ورغم أن فوز كوربن لا يبدو أنه سيكتب نهاية لحالة الانقسام الشديدة فى صفوف حزب العمال، بل ربما يدفع ببعض قيادات الحزب ونوابه إلى قرار بالانفصال وتأسيس حزب جديد وهى الاحتمالات المرجحة منذ فترة وكانت بانتظار اختبار نتائج الانتخابات على رئاسة الحزب، فإنها من ناحية أخرى تعبر بوضوح عن تزايد نفوذ الجناح اليسارى الراديكالى داخل صفوف حزب العمال، وبالذات من الأجيال الشابة والعضوية الجديدة التى انضمت خلال العام الماضى بعد فوز كوربن الذى يعبر بوضوح عن الهوية اليسارية للحزب، ويتبنى توجهات سواء على صعيد السياسات الاقتصادية والاجتماعية أو السياسات الخارجية، يعتبرها خصومه -سواء من قيادات حزب العمال بمن فيهم رؤساؤه السابقون مثل تونى بلير أو نيل كينوك، أو قيادات حزب المحافظين الحاكم- تهديدا لمستقبل حزب العمال، بل خطر على الأمن القومى لبريطانيا، بحسب تصريحات رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون وعدد من وزرائه! هذا الصعود لليسار الراديكالى فى بريطانيا من داخل حزب العمال يبدو أنه يمثل إزعاجا حقيقيا للقيادات السياسية التقليدية، سواء فى المحافظين أو العمال، لكنه فى الوقت ذاته يبدو أنه يحظى بتأييد متزايد داخل قواعد حزب العمال التى نجحت فى ترسيخ أقدام كوربن مجددا على قمة الحزب المعارض، والذى كان قد نال هزيمة فادحة فى آخر انتخابات تشريعية، انتخب على أثرها كوربن بعد أن كانت الغالبية تتوقع ضعف فرصه فى الوصول إلى رئاسة الحزب وبعد حملة ضارية ضده من عدد من القيادات التاريخية لحزب العمال، لكن يبدو أن خطابه الواضح ضد سياسات التقشف والأوضاع الاقتصادية فى بريطانيا، وسعيه لاستعادة الهوية اليسارية المميزة تاريخيا لحزب العمال، فضلا عن مواقفه الرافضة لسياسات بريطانيا الخارجية، سواء فى غزو العراق أو فى دعم إسرائيل أو غيرهما، كلها كانت أسبابا دفعت به إلى قمة حزب العمال، ورغم أن موقفه المتردد إزاء الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبى كان واحدا من أسباب دفع معارضيه داخل الحزب باتجاه الانتخابات المبكرة الأخيرة لرئاسة الحزب، فإن فوز الرجل الذى أعلن فى وقت متأخر قبل الاستفتاء عن تأييده للبقاء فى الاتحاد الأوروبى رغم معارضته لبعض سياساته فإنه يفضل البقاء وإصلاح المنظومة، سيجعل منه قيادة لصفوف القوى والأطراف التى كانت مؤيدة للبقاء فى الاتحاد الأوروبى خلال المرحلة المقبلة، خاصة فى ظل إقبال الكثير من الشباب على الانضمام لصفوف حزب المحافظين فى ظل رئاسة كوربن وتأييد كثير من الأجيال الجديدة له، وكذلك الدعم الذى يحظى به فى صفوف القطاعات والنقابات العمالية فى بريطانيا.
لكن هذا الدعم والتأييد لكوربن لا ينفى أنه يواجه أزمة حقيقية على الصعيد الداخلى فى حزب العمال المهدد بالانقسام وفقدان نسبة لا يستهان بها من كتلته النيابية الحالية، والتى كان أعضاؤها هم قيادات المواجهة مع كوربن، سواء باستقالاتهم المبكرة من حكومة الظل التى يرأسها كوربن بعد فوزه برئاسة الحزب، أو بدفعهم للانتخابات المبكرة على رئاسة الحزب بعد قيامهم بسحب الثقة منه، وهو ما رفضه كوربن وأصر على الاستمرار فى رئاسته للحزب واللجوء إلى الانتخابات الأخيرة التى فاز فيها، لينجو من مصير نظيره السابق فى حزب المحافظين كاميرون. ولكن رغم كل هذه التهديدات التى تواجه كوربن، فإن هناك ثلاثة مؤشرات مهمة قد يكون مفيدًا التوقفُ أمامها، الأول هو أنه يعبر عن صعود ملحوظ لقوى اليسار فى بريطانيا، وهو نموذج يبدو مشابها لما جرى فى عدد آخر من الدول الأوروبية مثل اليونان وإسبانيا وإيطاليا وغيرها، وذلك فى مواجهة اليمين المتطرف، وربما يرجع ذلك -فى جانب رئيسى منه- إلى الخطاب والسياسات التى يتبناها هذا اليسار فى مواجهة السياسات الاقتصادية التى تزيد من أوضاع الفقر لدى قطاعات كبيرة من المواطنين فى دول أوروبية، بينها بريطانيا، وهو الذى ربما يكون سببا فى أن يكتسب حزب العمال تحت قيادة كوربن المزيد من الأنصار بما فى ذلك من كانوا مؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبى الذين كان دافعهم الرئيسى فى التصويت هو الأوضاع الاقتصادية التى وعدوا -من قادة حملة الخروج- بأن تتحسن مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. المؤشر الثانى هو ما يلفت له نموذج كوربن، وقبله بيرنى ساندرز فى الحزب الديمقراطى فى أمريكا، ورغم التباينات والاختلافات، فإن كليهما يعبر عن مدرسة أكثر يسارا وسياسة أكثر شفافية، وكلاهما التف حوله جمهور باحث عن حلول ووجوه جديدة وغير تقليدية فى القيادات السياسية فى بريطانيا وأمريكا، ورغم كبر سن كل من كوربن وساندرز نسبيا فإن غالبية الجمهور المؤيد لهما جاءت من الشباب والطبقات الوسطى، وهو مؤشر مهم على مدى التحول والتغير الذى يمكن أن تشهده الخرائط السياسية فى بريطانيا وأمريكا وأوروبا خلال السنوات المقبلة. أما المؤشر الثالث والأخير، فهو أن فوز حزب العمال بنسب أفضل مما كان متوقعا فى الانتخابات المحلية الأخيرة التى جرت قبل شهور من الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبى، رغم تراجعه الواضح فى أسكتلندا وويلز فى تلك الانتخابات، فإن نتائجه فى إنجلترا وفوزه بمنصب عمدة لندن، تشير بوضوح إلى أن التوقعات حول التراجع الكبير الذى سيصيب حزب العمال تحت قيادة كوربن قد لا تكون دقيقة، وربما يمثل كوربن خلال السنوات القليلة المقبلة تحديا حقيقيا ويحقق مفاجآت جديدة مشابهة لما حققه فى انتخابات رئاسة حزب العمال عندما ينافس على انتخابات رئاسة الوزراء فى بريطانيا، سواء فى عام 2020 أو ربما قبل ذلك، إذا أدت الأوضاع السياسية فى بريطانيا إلى انتخابات مبكرة عن ذلك التاريخ. وربما تبدو تجربة كوربن فى حزب العمال، وساندرز فى الحزب الديمقراطى الأمريكى، وصعود أسهم بعض قوى اليسار الجديد فى أوروبا، سواء فى اليونان أو إيطاليا أو إسبانيا أو غيرها، ورغم التعثرات والتحولات التى قد تصيب بعض هذه التجارب فى ضوء اختبارات خطاباتهم وتصوراتهم النظرية على أرض الواقع فى الممارسة، فإن كلها تبدو دروسا وتجارب مفيدة وملهمة لقوى اليسار بكل أشكاله وألوانه وتنوعاته فى مصر التى تشير جميع الظروف الموضوعية إلى احتياج سياسى ومجتمعى حقيقى لها ولدورها، ومع ذلك فهى لا تزال غائبة، كما أن هذه التجارب جميعا التى أفرزت وبلورت قادة جددا ونخبا متجددة سياسيا فى مجتمعاتها تلقى بالضوء على أهمية الاستفادة منها فى تجديد دماء النخبة المصرية، وهو ما لا يبدو قاصرًا فى الحقيقة -وفى ضوء تجربتى كوربن وساندرز بالذات- على فكرة أن تجديد الدماء مرتبط فقط بالسن، بل الأهم هو التعبير عن فهم جديد ومختلف وأداء غير تقليدى ومتجاوب مع القطاعات الشابة والأجيال الجديدة، حتى وإن كان من يقوم بهذا الدور قد تخطى الستين أو السبعين.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف