الوطن
لميس جابر
رحلة الست سنوات
اليوم، هو الخامس من أكتوبر 1973، التاسع من رمضان، الساعة الآن العاشرة صباحاً.. تحرك القطار منذ ثلاث ساعات فى طريقه إلى محافظة قنا بصعيد مصر.. المشوار طويل وممل، سوف أصل فى السابعة والنصف مساءً، ثم أستقل عربة بلا زجاج، وربما يكون قفل باب العربة «عطلان»، فأضطر إلى أن أمسكه بيدى حتى مدينة «قفط»، ثم أستقل عربة أخرى للوحدة المجمعة الطبية، حيث أعمل طبيبة فى فترة التكليف فى الريف. ما زال القطار يتهادى، قرأت كل الجرائد والمجلات الممكنة التى اشتريتها من محطة مصر.. وما زال الطريق طويلاً، حتى الأخبار لا جديد فيها، لا مؤشر، لا علامة، لا بادرة أمل بأن الحرب قادمة.

كنا فى سنوات الجامعة الأولى عندما انكسرنا وهُزمنا وسقطنا من عنان السماء على أعناق الأمل الطاغى، وفى ساعات انتهى كل شىء.. ما زالت هذه الأيام تُلقى بصداها الحزين الكئيب، ما زال يوم الخامس من يونيو يطنُّ فى آذاننا بعدد الطائرات الساقطة بالمئات.. هللنا، وخُدعنا وأفقنا فى آخر اليوم على عبارة: وكيف دخلت كل هذه الطائرات إلى سماء مصر؟.. فى آخر اليوم ساد هدوء، صمت، حالة من السواد والكآبة، ولم نعرف بعدُ ماذا حدث. قطع التليفزيون إرساله، وبدأ فى إذاعة مارشات عسكرية وقرآن كريم.. وصرخ أخى: لقد ضُربنا، لقد هُزمنا، بدأنا نبحث فى الإذاعات الموجهة.. وبصعوبة عرفنا أخباراً تؤكد أنه يوم أسود.

القطار الآن يعبر محافظة أسيوط.. يا له من يوم طويل، لا جديد فيه، طال الانتظار، عدى عام الحسم ولم يُحسم شىء، وجاء عام الضباب ولم نرَ من خلاله شيئاً.. قمنا بمظاهرات فى الجامعة.. نريد الحرب، الكرامة المهدرة، والعزة التى غابت قرابة الخمس سنوات. بدأنا عام الردع ولم نردع شيئاً. المرارة شديدة، وفقدان الأمل معذب. ما زالت رائحة عنبر الحروق فى مستشفى الدمرداش تزكم أنوفنا. ما زالت وجوه الجنود الفلاحين البسطاء المحروقة بالنابالم والراقدة فى يأس وذل ونحن نبعث خطابات لذويهم لنخبرهم أنهم ما زالوا أحياء، فى الذاكرة. كانت العربات اللورى تأتى بالأجساد، منهم من استشهد، ومنهم من لا يزال يتنفس. أيام غاية فى الكآبة.. متى نحارب إذن؟ سعدنا بانتصارات الاستنزاف، وانتشينا ببارقة أمل: رأس العش، تدمير المدمرة إيلات، ثم تفجير ميناء إيلات.. الحمد لله.. ثم توقفت الحرب. لا بد من بناء حائط للصواريخ.. قبلنا مبادرة روجرز.. اليهود يسبون جنودنا على ضفاف قناة السويس، يلهون فى مياهنا وأرضنا، يرتفع خلف الشاطئ جبل ترابى شاهق محصن بدشم لا تهدمها القنابل الذرية، هكذا قالوا وهكذا تعذبنا.. سيناء ضاعت إلى الأبد.

إنه يوم طويل مثل كل أيام السنوات الست الماضية.. سوف يمضى بلا أمل ولا خبر ولا إيحاء بأن هناك شيئاً قادماً ولو حتى بعد عام. القطار يعبر كوبرى نجع حمادى.. هذه مدافع مضادة للطائرات تقبع مستعدة للحماية.. نعم، كنا نضرب فى العمق. جاء المغرب، وضرب المدفع، وجاء الشاى ووجبات القطار السريعة.. من لم يكن صائماً كان صائماً أيضاً. وصلنا المحطة، ركبت العربة إياها إلى «قفط». الظلام بدا شديداً هذه المرة، لم أكترث، وصلت إلى «قفط»، وبالعربة الأخرى التى كانت بلا باب نهائياً وصلنا إلى الوحدة المجمعة. يبدو أن الكهرباء مقطوعة، دخلت.. الإضاءة موجودة بالداخل، ولكن أنوار الأسوار كلها مطفأة. لم أكترث.. ذهبت إلى حجرتى التى تشبه الزنزانة لأننى كنت أقيم فى سكن التمريض ولا أعمل بهذه الوحدة مطلقاً لأن بها طبيباً مديراً وأنا كنت من المبعَدين سياسياً بسبب مظاهرات يناير 1973 وقرروا أن يُسكتونا.. وصمتنا كما كان كل شىء فى الأخبار صامتاً. شهور قضيتها فى هذه الحجرة بلا عمل فى انتظار شىء لا أعرفه ولكنى أنتظره. عرفت أن ضابطاً كان يتمم على وجودى كل يوم من إحدى الممرضات.. لا شىء يهم. جلست أمام النافذة أنظر إلى الجسر المقابل، الظلام دامس، جاءت أصوات من بعيد.. عربات مصفحة، ومجنزرة، ثم طابور من الدبابات تسير فى هدوء وتهز المبنى.. ما هذا؟ قالوا هكذا الحال منذ عدة أيام. استيقظ أمل بسيط، ولكنه سرعان ما تلاشى فى الصباح.. كان صباحاً مثل أى صباح.. الراديو يُسمع بصعوبة شديدة، لا أخبار.. عدى النهار.. نهار السادس من أكتوبر ولم أعلم شيئاً.. لا صحف تأتى.. لا راديو ينطق. فى صباح يوم السابع من أكتوبر بدأت الأخبار تتساقط من هنا وهناك.. ماذا؟؟ عبرنا؟؟.. لا شىء قاطعاً ولا خبر يقيناً حتى جاءت جريدة فى المساء.. يا للحظ السخيف.. ست سنوات وأنا أنتظر هذه اللحظة وتأتى بكل هذه العظمة وأنا غائبة بعيدة لا أستطيع المتابعة. أخذت حقيبتى وأسرعت يوم العاشر من أكتوبر لآخذ أى قطار إلى القاهرة.. لا بد أن أكون هناك، حرق القطار فى نجع حمادى وتعطل سبع ساعات.. الحظ العاثر ما زال يلازمنى. وصلت محطة مصر فى الرابعة صباحاً.. هرولت إلى الصحف واشتريتها كلها وخرجت إلى باب المحطة، ورأيت فى ميدان رمسيس الصورة التى انتظرتها ست سنوات.. أروع صورة فى حياتى.. الإظلام الكلى، ما عدا فوانيس العربات التى طُليت باللون الأزرق.. يا إلهى.. أخيراً.. جلست على سلالم المحطة وبدأت فى القراءة على الضوء الخافت.. الحقيقة أننا عبرنا خط بارليف.. رفعنا العلم.. إسرائيل اللعينة فقدت غطرستها وجبروتها فى ست ساعات.. غرقتُ فى الصحف ألتهمها حتى بزغ نور الفجر.. بدأت أبحث عن تاكسى لأذهب إلى بيتى. تحدثت مع السائق.. أخذنا نبارك لبعضنا البعض، رفعت رأسى الذى ظننته سيظل منتكساً بعد أن طال الوقت.. جاءت من بعيد أصوات خافتة واثقة هادئة تقول: رايحين.. شايلين فى إيدنا سلاح.. راجعين رافعين رايات النصر.. باسمك يا بلدى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف