هناك مفاتيح معينة، ومرتكزات محددة، لابد لنا جميعا من العمل علي إعادة إحيائها في نفسية الإنسان المصري، ومن أهمها في نظري شغفه العجيب بالعمران، فما خلت فترة من فترات تاريخه العريق من إبداع معماري جديد، يحتوي علي روائع الفنون، وقد استلزم هذا منه أن يبدع أيضا في فنون المعمار والعلوم الهندسية، حتي يتمكن من تحقيق هذا الشغف الكامن في أعماقه بالتشييد، وقد ظهر هذا مثلا في الهرم الأكبر، قال حسين مؤنس (أيسر تأمل فيما بين أيدينا من آثار هذه الحضارة يتحدث عن العلم القائم علي الحساب والدرس الطويل، هذه الأهرامات والمنشآت كيف تقوم دون هندسة)، وبقية الأهرام التي تزيد علي المائة هرم، والمعابد، والمسلات، والنحت، والمدافن الملكية المنقوشة بعجائب النقوش والرموز والرسوم، ثم الكنائس التاريخية المنتشرة في ربوع مصر، ثم المساجد والمآذن والمنارات والقباب، ثم الطرق والكباري والمعابر، والأسبلة والخانات، والتكايا، والقصور، ومنارة الإسكندرية، ومقاييس النيل، والمدارس المتقنة البناء، مع عجائب فنون النحت والنقوش، والصنائع المصرية العريقة، ثم سور مجري العيون، وحفر قناة السويس، وتشييد السد العالي، وحفر قناة السويس الجديدة، وغير ذلك كثير من مظاهر عشق الإنسان المصري للعمران والبناء، مع ابتكار وإبداع في العلوم الهندسية التي تعينه علي تحقيق هذا الشغف العميق في وجدانه، فإن أضفت إلي ذلك تاريخه العريق الممتد طوال ألوف من السنين بالزراعة التي هي خير ونماء وحياة، مع الابتكار في كل مستلزمات عملية الزراعة في الري والحصاد وتخزين الحبوب وبناء الصوامع.
ويكفي مثلا جامع السلطان حسن، والذي يعد بحق أعظم المساجد المملوكية وأجلها شأنا فقد جمع بين ضخامة البناء وجلال الهندسة، خصوصا قيام بعض أركانه علي أسس علم الهندسة اللا إقليدية، وقد توافرت فيه دقة الصناعة وتنوع الزخرف، وشتي الفنون والصناعات من دقة الحفر في الحجر، ودقة صناعة النجارة العربية وتطعيمها، حتي ازدحمت فيه روائع الفن، فاشتملت علي كل ما فيه، لا فرق في ذلك بين الثريات النحاسية، والمشكاوات الزجاجية، وقد احتفظت دار الآثار العربية بالقاهرة بالكثير من هذه التحف النادرة وهي من أدق وأجمل ما صنع في هذا العصر، حتي كان بعض كبار المعماريين يسميه: (هرم مصر الرابع)، ويكفي ما ذكره الرحالة العياشي الذي زار المسجد سنة 757هـ/1356م فيقول: (وهو مسجد لا ثاني له في مصر ولا في غيرها من البلاد في فخامة البناء وارتفاعه وإحكامه واتساع حناياه، وطول أعمدته الرخامية وسعة أبوابه كأنه جبال منحوتة تصفر فيها الرياح).
وكان المعماري العبقري كريزويل له عناية كبيرة جدا بمسجد السلطان حسن، وله حوله بحث خاص، وزار المسجد مرات واعتني بدراسة كل ظواهره المعمارية، وسجل بحوثه في كتابه عن تاريخ العمارة الإسلامية.
فنحن أمام نفسية تسبح في بحر من فنون المعمار، وتكشف عن شغف عميق بالتعمير، لا علي وجه الاستهلاك، بل علي وجه ابتكار العلوم والفنون التي تحقق ذلك، حتي يصح لنا لو أردنا تلخيص شخصية الإنسان المصري أن نقول إنه إنسان مُعَمِّر.
بل لقد امتد عمرانه إلي أعماق الدنيا، حتي قال هارولد ماكمايكل الدبلوماسي البحاثة البريطاني: (في رحلتي الأولي مع النيل جنوبا، ما وجدت بناء حجريا، من الخرطوم إلي أكو أتوريا «المديرية الاستوائية» إلا وهو من بناء المصريين، كل المدارس والمساجد ونقط البوليس وثكنات الجند ومراكز المواصلات ومحطات الري بناها المصريون).
وهذا الشغف العجيب بالعمران دفع الإنسان المصري إلي العناية الشديدة بالعلوم التي لا ينهض العمران إلا بها، خصوصا العلوم الحسابية والهندسية والعمارة، التي هي أداة العمران ومفتاحه، فصارت آثاره العمرانية عبر الزمان محتوية علي نسب هندسية وابتكار هندسي في غاية الدقة والتعقيد، وأسجل هنا الإشادة التامة بالكتاب العبقري (المعبد في الإنسان)، للباحث العبقري رينيه شوالر دي لوبكتس، وقد كتبه مؤلفه بالفرنسية في ثلاثة أجزاء كبار، وتمت ترجمته إلي الإنجليزية، فكشف عن بحوث وأسرار هندسية في غاية الغرابة.
هذا هو الإنسان المصري الشغوف بالعمران، الغارق عبر تاريخه في هذا الولع العجيب، والذي سري إلي وجدانه من نصوص الوحي الشريف عبر التاريخ، ومن إيمانه العميق بالغيب، مما خلع علي نفسه يقينا عميقا في قيمة العمران، وجعلته إنسانا لا يقبل التدمير، وينفر من القتل، ويهيم بالخلود، ويسعي بكل ما يملك في عمران الدنيا والآخرة، ويحترم قيمة الإنسان، ولا يتقاصر عن العمران أبدا.