د. هالة مصطفى
كيف تحدد الدولة أولوياتها!
لا شك أن مرور مصر بثورتين متتاليتين فى 25 يناير و30 يونيو قد رفع سقف التوقعات من النظام السياسى الذى جاء واستقر بعدهما, ولأن الرئيس عبد الفتاح السيسى اعتُبر قائدا خلص شعبه من الاستبداد الدينى والسياسى الذى كان من الممكن أن يطول تحت حكم الاخوان, فقد زادت الطموحات مما ضاعف من المسئولية الملقاة على عاتق النظام والدولة. لم ينتظر المصريون من رئيسهم الذى انتخبوه بأغلبية ساحقة ومن ضمنهم كاتبة هذه السطور, أن يكون عبد الناصر جديدا أو سادات آخر مهما بلغت درجة زعاماتهما فى زمانهما ولا بالطبع كـمبارك الذى ثاروا عليه, فهذا كله تاريخ مضي, إنما أرادوه أن يُعبر عن عهد جديد يحمل همومهم ويحررهم من معاناتهم الطويلة التى يُلخصها واقعهم الذى يعيشونه ويُحدث ببلدهم النهضة التى طال انتظارها.
فى أكثر من مناسبة بادلهم الرئيس نفس مشاعرهم وقاسمهم أحلامهم التى التزم بتحويلها الى حقيقة واقعة, منتقدا التركة الثقيلة التى خلفتها الـ60 عاما الماضية (أى ما يتجاوز الـ30 عاما لعهد الرئيس الأسبق ويمتد لفترة ما بعد هزيمة 1967) داعيا لـثورة من نوع مختلف, ثورة على الفساد والبيروقراطية وسوء الإدارة التى لم تُولد سوى الفقر والجهل والمرض وتسببت فى تراجع مصر على المستويات كافة وفقا لمؤشرات التنمية الدولية, واعدا بأن يشعر المواطنون بتحسن ملموس بعد عامين من توليه الحكم.
وبالفعل هناك انجازات تمت فى بعض المجالات الخدمية مثل اصلاح قطاع الكهرباء والغاز وتطوير شبكات الطرق والكباري, واقامة وتوزيع آلاف من الوحدات السكنية لقاطنى العشوائيات إضافة إلى المشاريع الكبرى كتوسيع قناة السويس التى أُريد لها أن تكون مصدرا إضافيا للدخل بالعملة الصعبة ومركزا صناعيا وتجاريا ضخما وكذلك الإعلان عن إنشاء عاصمة ادارية جديدة وزراعة مليون ونصف مليون فدان فى الصحراء وغيرها من الأمثلة, ورغم ذلك كان المردود الشعبى لها ضعيفا بعكس ما توقعه صانع القرار, وهو ما يعنى أن هذه الإنجازات إما أنها جاءت مبعثرة تعبر عن جهود متفرقة لا تحكمها سياسة عامة شاملة أو أن قائمة الأولويات التى اختارتها الدولة لم تكن هى نفس أولويات واهتمامات مواطنيها.
المشهد يقول إن أغلب الأزمات الاجتماعية المزمنة مازالت لاتراوح مكانها من صحة وتعليم وخدمات عامة ومستويات معيشة وزاد عليها ارتفاع غير مسبوق فى الأسعار مع بقاء المعدلات العالية للبطالة وثبات الأجور والمرتبات, وما يزيده عبثية هو تلك الفجوة الرهيبة بين طبقة مفرطة فى الثراء لا تمثل سوى أقلية الأقلية, تنفق الجانب الأكبر من أموالها فى الاستثمارات العقارية باهظة الأثمان حتى باتت مصر من أكثر بلدان العالم شهرة وضما لهذا العدد الهائل من التجمعات السكنية «الكومباوندز» التى بنيت على أراض تم شراؤها من الدولة بأسعار زهيدة وتُباع وحداتها بأرقام خيالية قد تفوق مثيلاتها فى أغنى المدن نيويورك ولندن وباريس ومدريد, وأغلبية كاسحة من الفقراء, ليس أدل على حالهم من صورتهم وهم يلقون بأنفسهم فى البحر فى قوارب الهجرة غير الشرعية بحثا عن فرصة حياة, حتى باتت نسبة المصريين فى هذه الهجرة من أعلى النسب وفقا للتقارير المختصة, ومع هذه الفجوة تتآكل الطبقة الوسطى من مهنيين وموظفين وصغار ملاك وأصحاب مشاريع متوسطة وصغيرة بصورة مطردة, وهذا خلل اجتماعى خطير لا يمكن لأى دولة أن تتجاهله أو لا تتدخل لاصلاحه.
إن هذا الواقع لم يعكس نفسه فقط داخليا وفقا لما تحمله مقالات كثيرمن الكتاب والمحللين السياسيين وينقله الإعلام, وإنما خارجيا أيضا, ولم يكن تقرير الإيكونومست البريطانية الشهير, الذى تولت وزارة الخارجية الرد عليه فى حينه, إلا واحدا من تقارير أخرى شبيهة, صحيح أن بعض الكتابات الغربية تكون مغرضة أو متحاملة على رئيس مصر تحديدا, الا أن المؤشرات الخاصة بالتنمية مازال أغلبها صحيحا.
لا يعنى ذلك أن الدولة لا تبذل جهدا جادا أو أنها لا تعى حجم المشكلة, ولكن الواضح أن رغبتها فى العمل على جميع المسارات قد أخل باتجاه البوصلة الأساسي, فالاهتمام بالسياسة الخارجية وكان مهما ومطلوبا فى بداية عهد الرئيس السيسى وحقق نتائج إيجابية ملموسة, الا أنه بدا الآن على حساب الداخل, ونفس الشيء ينطبق على الأولوية القصوى المُعطاة للمشاريع الكبرى من حيث الإنفاق, فهذه المشاريع بحكم التعريف تستنزف الموارد من العملة المحلية والصعبة وعائدها لن يظهر إلا على المدى البعيد فى حال إستكمالها على الوجه الأمثل, يسرى ذلك على مشروع قناة السويس الذى تأثر بانخفاض حجم التجارة الدولية وأيضا على العاصمة الادارية, التى ستحتاج الى تمويل ضخم كى تقوى على منافسة مثيلاتها فى العالم وحتى لا تتحول الى نموذج أخر من نماذج المدن الجديدة محدودة القيمة والفعالية كمدينة السادات وغيرها, ناهيك عن أنها لن تُغنى عن النهوض بالقاهرة, تلك العاصمة المتميزة والمتفردة عبر التاريخ والتى قلما يتوافر مثلها للدول الأخرى حتى الغنية منها, وهو ما يمكن أن يُقال -من حيث التكلفة الاقتصادية العالية- على استصلاح الأراضى الصحراوية لمشروع المليون ونصف مليون فدان. بعبارة أخرى إن هذا الكم من الأموال كان يمكن أن يُخصص للقطاعات والمجالات الأكثر احتياجا فى المرحلة الحالية والسابق الإشارة اليها حتى يتحقق الرضا الاجتماعى اللازم للاستقرار السياسي.
إن دور الدولة فى النهوض بالمجتمع من خلال سياساتها العامة وطريقة توظيفها لمواردها, ضرورة ملحة تسبق المشاريع الكبري, والقضية ليست قضية أموال وإنما هى أولويات أولا وأخيرا.