فيتو
أبو الفتوح قلقيلة
من فضلك.. كن شيطانا أخرس وكفى!
لكى تدرك معنى المعاناة عند عموم المصريين في تلكم الأيام الأصعب والأشد قسوة، عليك بالتجول في الأسواق العامة والشعبية، الذهاب إلى المستشفيات الحكومية المهملة في غالبيتها، زيارة فصل دراسى في أي مدرسة حكومية بعيدة عن أعين السيد الوزير ورفاقه الذين لا يعلمون عن طلاب مصر الفقراء شيئا، أما إذا أردت أن تتعلم معنى الجهاد في سبيل الحياة اليومية، فعليك ركوب مواصلات عامة حكومية أو خاصة من نوعية القطارات العادية غير الآدمية أو حتى الميكروباصات المنتشرة بطول مصر وعرضها..

هنا فقط ستدرك أنك تعيش في عالم افتراضى أكثر من فيس بوك وتويتر وغيرهما، مما تضع صورتك الشخصية عليه وتبتسم وتمرح ثم تدعو الناس للتفاؤل، لأنك مهما ارتفعت الأسعار فلن تشترى سوى الطعام المناسب لك، وتذهب للطبيب في عيادته الخاصة وتدفع الشىء الفلانى في مقابل خدمة محترمة ومضمونة.. أنت إذن من المحظوظين أصحاب المناصب المهمة والمخيفة أحيانا.. أو من أصحاب الحظوة والواسطة التي دفعت بك لوظيفة حكومية ذات دخل كبير نلتها بالفساد الميسر الوراثى أو بالفساد المالى (الرشوة) أو حتى بفساد آخر مستتر!

لا تظلم الناس وتتجنى على الفقراء وتتدنى حتى تصبح أقل من شيطان أخرس.. فقط اسكت على الحق وكن شياطنا أبكم كلا على نفسه فقط، لكن لا تتدنى دون ذلك وتصبح شياطنا واعظا بما هو غير موجود.. فالناس في ضيق من العيش، ولا تتحمل أكثر من ذلك، ولا تحتاج لمواعظ من نوعية (اصبروا شويتين.. إيه يعنى لما نجوع مش أحسن ما نبقى زى سوريا والصومال!)..

هذا الهراء واللغو العفن أصبح لا يجدى.. فلا يوجد موظف كبير سيجوع أو جاع من قبل، ولا يوجد مقرب من محافظ أو مساعد أو حتى سكرتير وزير معرض للفقر من بعيد، فما بالك إذن بمن هو فوق الوزير وفوق الناس.. هل سيجوع مثلا مثلما يجوع العامة!..بالطبع لا.. وأنت تعرف أنك تنافق وتكابر وتداهن لمصلحتك المباشرة أو غير المباشرة مع النظام والحكومة.. إذن اصمت وكن شيطانا أخرس ولا تثر حنق وكراهية وحقد الغلابة وهم الأغلبية!

أكتب ذلك بعدما رأيت بعينى هذا الموقف في مدينة إقليمية مثل دمنهور التي تشابه معظم مدن الجمهورية في كثير من السمات، ويتشابه الناس هناك في حياتهم مع بقية المواطنين في مصر، التي كانت يوما محروسة، ففى وقت متأخر من الليل.. كنا في انتظار ميكروباص يمر من وسط المدينة وعليه إقبال بالطبع لأن الأجرة جنيه فقط، بينما اأجرة التاكسى تتراوح ما بين الأربعة جنيهات كحد أدنى إلى أضعاف ذلك ويزيد، المهم أن امرأة عجوز تبدو وكأنها جاوزت السبعين بكثير، تسير على عكاز بصعوبة بالغة حاولت أن تلحق بالسيارة وساعدها الناس للصعود لها بعد معاناة من جسدها الهزيل.. ركبت السيارة وبدا بعض الناس في لومها( يا حاجة كنت ركبت تاكسى أحسن من البهدلة).. وهنا فقط انهمرت الدموع من عيني هذه السيدة المحترمة، والتي لم تجد في وطنها راحة بعد كل هذه السنون..

كان ردها بليغا وداميا وقاهرا ومحبطا ومثبطا لكل من تسول له نفسه حديثا وهميا عن التفاؤل، فلقد ردت السيدة بكلمات بسيطة جدا قائلة (وهو لو كان معايا يا ابنى كنت اتبهدلت كده!)

لا أحد يحب البهدلة بالطبع، ولا يريد المصريون أن يمارسوا التشاؤم لأنه موضة مثلا، أو من باب التغيير لأنهم زهقوا مثلا من الكافيار واللحوم وحفلات الانحلال والسفالة، فحبوا أن يتحشروا في مواصلات غير آدمية ولا تصلح حتى لنقل الحيوانات.. هناك بشر في مصر يمثل لهم الجنيه عديم القيمة في نظر البعض مشكلة كبرى في الحصول عليه، ولا يفرطون في إنفاقه إلا بالشديد القوى.. هناك آلاف بل ملايين مثل هذه السيدة العجوز التي تحرص على توفير جنيهات قليلة من أجرة سيارة تاكسى حتى تشترى بهذا القليل وجبة فول أو قليل من الخضار..

فقط اشعروا بغيركم، لا أحد ينكر عليكم نعمة الثراء والراحة والتدليل من حكومة لا ترى سوى نفسها.. فقط كونوا على قدر الإنسانية واتقوا غيظ قلوب تعبت.. حديثى موجه لكل مصرى لا يشعر بغيرة في هذه الأيام العسيرة.. لنا الله ولمصر السلامة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف