الأخبار
يوسف القعيد
جمال أكتوبر
يشاء مكر الأيام أن يصبح لأكتوبر أكثر من علامة مهمة في علاقتي بصديق العمر جمال الغيطاني. الذي لم أصل ليقين حتي الآن أنه رحل عن عالمنا. وأنه في الثامن عشر من أكتوبر القادم يكتمل العام الأول علي رحيله. في بعض الأحيان يخيل إليَّ أن صوت التليفون سيصل لأذني وعندما أرد أسمعه يتكلم. مثلما كنا نفعل بشكل يومي منذ أن تعارفنا في منتصف ستينيات القرن الماضي. وحتي رحيله في هذه الأيام من العام الماضي.
يوم 20 من أكتوبر القادم تقيم الدكتورة أمل الصبان الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة، ندوة كبيرة للاحتفاء بمرور سنة علي رحيل جمال الغيطاني. والاحتفاء سيصبح احتفالية كبري لا نقف فيها لكي نلوح له بمناديل الوداع. ولا لنقول له إلي اللقاء. عندما نصبح من سكان دار الحق الباقية. ولكن لنستعيده ونستذكره ونقضي معه بعض الوقت كما لو أنه ما زال واحداً منا. رغم الموت، لغز الألغاز الأكبر. كما كان يسميه في حياته.
أكتوبر لم يكن شهر الرحيل بالنسبة لجمال. لكنه كان أيضاً شهر وصول علاقتنا لذروة كبري تمثلت في علاقة مع الوطن. كنت مجنداً في القوات المسلحة. وكان هو المحرر العسكري لجريدة الأخبار ومؤسسة أخبار اليوم. وكان في الجبهة بهذه الصفة منذ اليوم الأول لملحمة العبور.
قبلها ومنذ أن امتهن التحرير العسكري في جريدة من كبريات جرائدنا المصرية. وأصبح تردده عليَّ في وحدتي يكتسب دلالات أخري. كان يزورني مع أصدقاء آخرين، لعل أكثرهم تردداً: إسماعيل العادلي، عبد الرحمن أبو عوف، ونبيل بدران، وغيرهم كثيرون. لكنها لم تكن زيارات مثل كل الزيارات. كان يتحسس حلمه الشخصي وحلم الوطن كله بأن يغسل هذا الجيش العظيم ما جري في 1967.
حتي لحظات عمره الأخيرة كان جيشنا هو ثالثنا في تجربة العمر. فقد توفاه الله في المجمع الطبي للقوات المسلحة بالجلاء. وكان قائد المجمع اللواء طبيب بهاء زيدان يتعامل معه باعتباره صديقاً قبل أن يكون مريضاً عنده في المستشفي. وكان اللواء محسن عبد النبي مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة يتعامل مع مرضه باعتباره مرض أحد زملائه من الضباط أو الصف ضباط أو المجندين. وحرص علي حضور تأبينه في المجلس الأعلي للثقافة.
بعد رحيله قرر الفريق أول صدقي صبحي القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع أن تقام ليلة العزاء في مسجد المشير طنطاوي. وجاء بنفسه مع عدد من قيادات جيشنا لتقديم العزاء لأسرته ولنا. وقال يومها إنه يعزي نفسه قبل أن يقدم لنا العزاء.
لجمال الغيطاني كتاب مبكر. ربما لم تتم إعادة طباعته مع مؤلفاته الأدبية الأخري، رغم أنه من كتبه المهمة. صدر في مؤسسة روزاليوسف عندما كنا نلتقي - أنا وجمال - مع فتحي خليل الأخ الأكبر والأستاذ والزميل. وأخذ الكتاب من جمال ونشره ضمن كتاب روزاليوسف. في كتاب صغير الحجم، كبير القيمة. لأنه يناقش فيه عبر مشاهداته ومتابعاته لجيشنا علاقة أهل مصر بالحرب. وكان الكتاب مهماً وقتها - وأعتقد أنه ما زالت له نفس الأهمية - في مواجهة ما يروج له خصومنا من أن شعب مصر شعب مسالم. ولا يعد شعباً محارباً. وهذا الكلام جزء من حرب نفسية، كانت مصر هدفاً لها وستظل.
تعرفت علي جمال في مقهي ريش، وكنا نجلس حول نجيب محفوظ في منتصف ستينيات القرن الماضي. وتواصلت واستمرت هذه العلاقة حتي رحيله في مثل هذه الأيام من العام الماضي. وكان جيشنا ثالثنا في هذه العلاقة، حتي بعد أن سُرِّحت من الخدمة العسكرية.
ظلت لنا صلاتنا بجيشنا. ولا أقول المؤسسة العسكرية. من يومها وحتي لحظة رحيله. وكنا ندرك معاً أن مصر منذ أن عرفت الحياة كان جيشها هو صمام أمان الحياة. وهو الرهان الأساسي علي فكرة الاستمرار والتحدي والاستجابة. وهي الأفكار الأساسية التي تلخص التجربة المصرية.
ما من مشروع قومي كبير إلا وكان جيشنا طرفاً أساسياً فيه. وها نحن اليوم نكتشف أن جيشنا يحارب التطرف والإرهاب في سيناء بشكل لحظي. وفي نفس الوقت يقوم بدور جوهري وأساسي، ربما يسبق كل الأدوار الأخري في مواجهة مشاكل مصر الداخلية من لقمة العيش إلي استصلاح الأراضي لبناء المساكن، لتوفير ما يحتاجه المصريون في حياتهم اليومية.
عندما كان يزورني في الوحدة العسكرية، كانوا يدخلونه دون تأكد من شخصيته. لأنهم كانوا يعتبرونه شقيقي الذي يزورني ولا داعي لأي تدقيق في الأمر. وأنا كنت سعيداً بهذا. وما زلت. فأعتبر أن ماجدة الجندي زوجة شقيقي، وأن محمد الغيطاني ابن شقيقي، وأن إسماعيل الغيطاني ونوال الغيطاني أشقائي.
هل أعزي نفسي مرددا شعر صلاح عبد الصبور: يا موتانا، ذكراكم قوت القلب، في زمن عزت فيه الأقوات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف