المصرى اليوم
عباس الطرابيلى
الخديو إسماعيل.. فى شرم الشيخ!
رأيت أمس وجه وروح الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على باشا.. وأين؟! فى مدينة شرم الشيخ.. أحسست بروحه وهو يتابع ما قدمه لمصر منذ ١٥٠ عاماً، هى عمر تاريخنا البرلمانى، الذى نحتفل به هذه الأيام.. وللأسف لم أجد تكريماً- كما يجب- للرجل الذى أنشأ أول حياة برلمانية منتخبة فى تاريخ مصر.. فكان هو الحاضر الغائب فى هذه الاحتفالية.. فهل فعلاً مازالت مصر تنظر إلى الخديو إسماعيل بأنه وراء المآسى التى عانت منها مصر ووصلت قمتها بالاحتلال البريطانى لها؟.. وهل نحن نتذكر فقط السلبيات وننسى الإيجابيات.. وفى مقدمتها بداية أول حياة برلمانية منتخبة فى مصر؟.. وما دمنا- رسمياً- تجاهلنا الخديو الذى بدأ مشوار النهضة فى مرحلتها الثانية، وكان مشوارها الأول فى عهد جده الكبير: محمد على باشا.. تعالوا نتذكر ونحيى الذاكرة القومية عن أول برلمان فى المنطقة كلها.. ومن أول برلمانات العالم.. هنا فى مصر.

شهدت البلاد إنشاء مجلس شورى النواب عام ١٨٦٦، عندما وضع إسماعيل نظامه فى لائحتين: الأولى لائحة أساسية من ١٨ مادة تحدد سلطاته وطريقة انتخابه.. ومواعيد اجتماعه.. والثانية من ٦١ مادة تشبه اللائحة الداخلية للمجلس بالمفهوم العصرى.. ورغم أن هذا المجلس لم يكن يصدر «قرارات»، بل هى رغبات ترفع إلى الخديو، وله فيها القول الفصل.. إلا أن المجلس سرعان ما انتزع ما يريده من سلطات، بعد فترة قصيرة.. وكان المجلس يضم ٧٥ عضواً ينتخبون لمدة ثلاث سنوات.. ويتولى انتخابهم عمد البلاد ومشايخها فى المديريات.. وجماعة الأعيان فى القاهرة والإسكندرية ودمياط «وهى محافظات»، وذلك حسب عدد السكان.. ويشترط أن يكون العضو مصرياً لا يقل عمره عن خمس وعشرين سنة، وأن يكون حسن السمعة ولم يصدر ضده أى أحكام، على أن يجتمع المجلس شهرين كل سنة، فى القاهرة، وجلساته سرية.. أما رئيس المجلس فكان بالتعيين هو ووكيله، وللمجلس تشكيل لجان من أعضائه لتنظيم عمله.. ونلاحظ أن نظام المجلس كان يملك توقيع عقوبات على من يتخلف من الأعضاء، دون عذر.. ولاحظوا أن نفس المشكلة- أى عدم انتظام النواب فى الحضور- مازال البرلمان المصرى يعانى منها حتى الآن.. أيضا نلاحظ أن الأعضاء يتمتعون بالحصانة النيابية، فلا ترفع عليهم دعوى جنائية أثناء الانعقاد إلا إذا ارتكب أحدهم جريمة قتل.. وللعضو أن يطلب الكلمة وتصدر القرارات بأخذ الآراء علانية.. وبالأغلبية.. بل منحت اللائحة النظامية احترام رأى الأقلية!! وللحقيقة أن «الأمة» لم تطلب هذا المجلس.. بل كان هدية من الخديو إسماعيل، أى من بين مخطط إسماعيل لتحديث الدولة.. ولإيجاد مجلس يستشيره فيما يمكن أن يتخذه من قرارات.. وربما ذلك ما جعل هذا المجلس ذا سلطة منقوصة.. حتى وإن تطورت سلطات المجلس بعد ذلك. وقد بدأت جلسات هذا البرلمان الأول «مجلس شورى النواب» فى القلعة يوم الأحد ٢٥ نوفمبر ١٨٦٦، برئاسة إسماعيل باشا راغب.. وحضر جلسة الافتتاح الخديو إسماعيل نفسه.. وفيها تليت خطبة العرش، وهى من الوثائق المهمة فى تاريخ الحياة النيابية بمصر، لأنها تقرر قاعدة الشورى فى نظام الحكم، واستندت إلى القرآن الكريم، وإعلانها أن الغاية من الحكم «هى منفعة الجمهور»، وتم تشكيل لجنة من عشرة أعضاء للرد على خطاب العرش هذا.

ثم بدأت أعمال المجلس بتشكيل لجان المجلس واعتماد عضوية النواب.. وتنظيم عملية تقديم الاقتراحات، بأن يعرضها رئيس المجلس على هيئته.. فإذا استقر الرأى على المداولة فيه ترسل صورته إلى مجلس الوزراء ليحاط علماً به، ثم يطرح الاقتراح على المجلس لمناقشته.. وبذلك وضع المجلس ضوابط القواعد الأولى للعمل البرلمانى، ومنها حق المجلس فى استدعاء كبار الموظفين فى الدولة، بمن فيهم الوزير المختص، للرد على ما يثيره الأعضاء من أفكار.

■ ■ وما دمنا نسجل بدايات عمل أول برلمان مصرى نقول إن مؤرخ مصر الحديثة، عبدالرحمن الرافعى، سجل كل ذلك فى كتابه القيم عن عصر إسماعيل فى الجزء الثانى، بل وسجل أسماء كل الأعضاء.. وأيضاً كل الاقتراحات التى تقدم بها الأعضاء، رغم أن «الوقائع المصرية» كانت تنشر فى وقتها مضابط هذه الجلسات.

■ ■ ويهمنا هنا أن نذكر أن هذا البرلمان الأول ضم أسماء عظيمة، تمرست على العمل البرلمانى للدفاع عن الأمة.. ومازال التاريخ البرلمانى يتذكر منها أسماء عائلات: جميعى.. الشوربجى.. إتربى.. الجزار.. شعير.. أبوحسين.. دبوس.. الوكيل.. الشواربى.. أبوشنب.. أباظة.. الزمر.. المنشاوى.. حزين.. الشريعى.. شعراوى.. حمادى.. أبوستيت.. وخفاجى.

■ ■ ولا ننسى هنا أن هذا المجلس فى دوراته المتعددة انتزع الكثير من السلطات، بل عبر- لأول مرة بالحرف- عن أنه يمثل الأمة المصرية.. وكانت بداية رائعة.. كيف نسينا كل ذلك؟.. وكيف تجاهلنا هذا الحاكم العظيم إسماعيل باشا الذى حاول واجتهد حتى أنشأ أول برلمان فى الشرق.. حتى وإن انتقص ذلك من سلطاته؟.. تحية للخديو إسماعيل، حتى ولو جاءت متأخرة ١٥٠ عاماً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف