جلال امين
لماذا تستمر مشكلة البطالة؟
يجب أن نعترف بأنه، طوال الخمسين عاما الماضية، أى منذ انتهاء سنوات الخطة الخمسية الأولى (60 ـ 1965)، لم تنجح حكومة مصرية واحدة فى مواجهة مشكلة البطالة، وجها لوجه، ومن ثم استمرت المشكلة دون علاج حقيقى طوال هذه الفترة الطويلة، ازدادت حدتها فى بعض السنوات بالمقارنة بغيرها، ورزقنا أحيانا بضربة حظ، لا فضل لنا فيها، خففت من وطأتها، فلما انتهت عادت المشكلة إلى التفاقم، واستفحل أمرها حتى بدأت ظاهرة الهجرة المتكررة على قوارب متهالكة، فى محاولة للفرار من البطالة، الحادث الأخير المشئوم، الذى وقع أمام شاطئ مدينة رشيد، هو إذن تكرار لظاهرة مستمرة ليست إلا عرضا من أعراض جسم مريض بمرض عضال.
طوال هذه الخمسين عاما، ما أكثر الأعذار التى قدمت، والأكثر منها وعود لم تتحقق، ودائما يستخدم اسم المتبطلين دفاعا عن سياسات تتخذ لخدمة أغراض أخري، أحيانا تلقى الحكومة اللوم على الحكومة السابقة، وأحيانا على السكان جميعا لأنهم يتوالدون بسرعة، وأحيانا على دول أجنبية تريد تعطيل تقدمنا، وأحيانا على الظروف الدولية غير الملائمة..إلخ. وعلى الرغم من أن كلا من هذه الأعذار فيه جزء من الحقيقة، فإن الأداء الاقتصادى لأى حكومة يجب أن يقيم على أساس افتراض وجود كل هذه الأشياء، أى على أساس التسليم بأن الحكومات السابقة لها أخطاؤها، وعلى أساس أن معدل نمو السكان مرتفع وسيظل مرتفعا حتى تحل المشكلة الاقتصادية نفسها، وعلى أساس أن الدول الأجنبية كثيرا ما تتعارض مصالحها مع مصالحنا ومن ثم قد تعمل ضد مصلحتنا، وعلى أساس أن الظروف الاقتصادية الدولية لا تظل ملائمة إلى الأبد، بل لابد أن تتقلب بين الملائم وغير الملائم، كل هذا يجب التسليم به، ولكن الحقيقة أننا أثبتنا فشلنا فى جميع الظروف فلماذا هذا الاستمرار المدهش للفشل طوال الخمسين عاما الماضية؟ كانت مصر فى أثناء سنوات الخطة الخمسية الأولى (60 ـ 1965) سعيدة الحظ بظروف دولية ملائمة للغاية اقترنت بوجود مسئولين عن السياسة الاقتصادية يتسمون بالكفاءة وحسن النية.
كانت تلك الفترة هى آخر فترة تتم فيها مواجهة مشكلة البطالة فى مصر وجها لوجه، وتكلل فيها المواجهة بالنجاح، وإن كان من الممكن أيضا توجيه اللوم للسياسة الاقتصادية لهذه الفترة (الستينيات وأواخر الخمسينيات) لأنها أفرطت فى الارتكان على المساعدات الخارجية (من الغرب والشرق على السواء)، ولم تتبن تبنيا كاملا سياسة الاعتماد على النفس (بفرض أن هذا كان ممكنا أصلا فى ظل الظروف الدولية السائدة)، فالمساعدات الخارجية، مهما يطل عمرها، قصيرة العمر، ولابد أن تدفع الدولة التى تفرط فى الاعتماد عليها ثمنا غاليا لذلك، كما دفعت مصر ابتداء من منتصف الستينيات. بعد فترة من عودة ظاهرة البطالة وتزايدها (65 ـ 1974) بدا وكأن المشكلة قد بدأ حلها عن طريق الهجرة الى الخليج، وبالفعل انخفض معدل البطالة بشدة طوال السنوات العشر التالية، ولكن لا يخفى على أحد أن هذا لم يكن نتيجة اتباع سياسة اقتصادية رشيدة، بل نتيجة ضربة حظ (هى ارتفاع أسعار البترول، والزيادة الكبيرة فى ثروة دول الخليج قليلة السكان، وحاجتها إلى استيراد العمالة من مصر ودول عربية أخرى)، فلما انتهى عمر هذه الفترة ابتداء من منتصف الثمانينيات (بانخفاض أسعار البترول وزيادة الاعتماد على العمالة الآسيوية)، عادت مشكلة البطالة فى مصر إلى التفاقم.
منذ ذلك الحين لم تحظ مصر، لا بظروف دولية أو سياسية ملائمة، مثل تلك التى سادت بين 55 و1965، ولا بضربة حظ، مثل التى سادت بين 75 و1985، فعادت مصر تترنح تحت وطأة العواصف الخارجية والفساد الداخلي، بينما استمر السكان يتوالدون بمعدلات مرتفعة، ويرسلون أولادهم إلى المدارس والجامعات، وكأن هناك فرصا للعمل تنتظر الجميع لدى وصولهم الى سن العمل. خلال الثلاثين عاما الماضية، استمر بالطبع تقديم الأعذار المملة، والتشخيصات الخاطئة للمشكلة، والوعود الكاذبة، فهذه كلها هى الحيل المألوفة للحكومات الفاشلة، هكذا تعلو الشكوى من التزايد السريع فى السكان كلما ظهر فشل الحكومة فى إحداث التنمية بمعدل أسرع، بينما نعرف جميعا ويؤكد تاريخ الدول التى سبقتنا فى التنمية، أن معدل المواليد لا ينخفض عادة إلا إذا ارتفع مستوى المعيشة، إننا لا ننكر أى فضل لأى سياسة تشجع على تخفيض معدل المواليد، فى مثل ظروف مصر الحالية، ولكننا نؤكد أن هذا أشبه بأثر الموعظة الحسنة على سلوك شخص سيئ الخلق لأسباب اجتماعية أو نفسية.
تأتى أيضا حكومة بعد أخرى لتعدنا بأنها ستحل مشكلة البطالة عن طريق تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة، يقال هذا بينما تفعل الحكومة كل شيء من شأنه تشجيع الاستثمارات الأجنبية على عدم المجيء، ليس هذا فحسب، بل إن تعليق الآمال على هذه الاستثمارات الأجنبية الخاصة يمكن قبوله اذا كان الغرض هو مجرد تنمية الناتج أو الدخل القومي، ولكنه كثيرا ما لا يكون مقبولا كحل لمشكلة البطالة، فالمستثمر الأجنبى يأتى ليحقق الربح لنفسه، وهو فى معظم الأحوال يرى فرص الربح أكبر فى إحلال الآلات محل العمال، أو فى تقليل العمالة بدلا من زيادتها، أو فى مناطق لا تشكو من البطالة، أو حتى فى الحلول محل مشروعات كانت تشغل عمالا أكثر منه فأدى مجيؤه إلى إغلاقها. هناك أيضا الوعد بحل مشكلة البطالة عن طريق الاقتراض من الهيئات الدولية، ولكن هذه الهيئات هدفها فى الأصل خدمة الاستثمارات الأجنبية الخاصة. هناك طبعا الكلام الكثير عن «شبكات الحماية» التى يزمع نشرها أو تقويتها لحماية الفقراء وتشغيل المتبطلين، من نوع الصناديق الاجتماعية أو التضامنية أو التكافلية..إلخ، وهى فكرة جيدة اذا استخدمت فعلا من أجل الفقراء، وليس من أجل تشغيل أبناء الأغنياء وبناتهم الذين يعانون هم أيضا البطالة لولا هذه الصناديق. وأما المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر، التى يكثر الحديث عنها كلما أثيرت مشكلة البطالة، فيبدو أن أحجامها الصغيرة أو المتناهية الصغر تمنعنا من رؤيتها بوضوح، ومن ثم علينا الانتظار حتى يكبر حجمها. من هذا يتضح لماذا فشلنا طوال الخمسين عاما الماضية فى حل مشكلة البطالة، ليس من أسباب الفشل، كما تري، أن المشكلة صعبة الحل، أو أن حلها يحتاج الى معرفة فنية لا تتوافر بسهولة، أو يحتاج إلى اجتماعات ومناقشات سياسية متكررة، أو إلى استيراد عظماء الاقتصاديين من الخارج..إلخ، لقد توافر لدينا كل ذلك خلال الخمسين عاما الماضية، ولم نحل المشكلة، لابد إذن أن الأسباب أبسط وأصعب، فى الوقت نفسه مما نظن.