فى أواخر عام 2010، وبدايات عام 2011، كنت فى السودان لمتابعة الاستفتاء على انفصال الجنوب.
بكل المعايير كان الحدث كبيرا وفارقا ومُزلزلا، ها هو أول بلد عربى ينقسم بالفعل إلى دولتين، وسط أزمات طاحنة فى ما يخص إدارة التنوع فى العالم العربى، واتهامات أخرى ومعتادة للتدخلات الأجنبية، والرغبات الاستعمارية فى تفتيت المنطقة.
كان الطبيعى أن ينصرف النقاش العام إلى الأزمة الرئيسية، ويطلب من النظام كشف حساب عن جهوده لمنع الانفصال والحفاظ على السودان موحدا، كما تسلمه موحدا قبل 20 عاما، وما جرى فى العشرين عاما تلك، وقد كانت فرصة كبيرة لتحقيق أى سياسات رامية إلى علاج أسباب دعاوى الانفصال، ومعالجة مشكلات التنمية فى المناطق المهمشة. وما ضمانات ألا تؤدى ذات السياسات التى لا تعترف بالتنوع ولا تُحسن إدارته إلى ظهور دعوات انفصالية جديدة فى مناطق جديدة مما تبقى من السودان؟
لكن كل هذه الأفكار لم تكن بالدرجة الكافية جزءا من النقاش العام وقتها، على الأقل فى الإعلام الرسمى والخاص «الموالى» للنظام ومنتديات الأحزاب والمنابر التى تتحالف مع الحزب الحاكم، الذين كان لهم أجندة مغايرة عن محاولة فهم أخطاء الماضى واستشراف ما يضمن ألا تتكرر ذات الأخطاء فى المستقبل.
من ضمن القضايا التى تم إطلاقها وأثارت جدلا واشتباكا وشغلت الرأى العام، الدعوة التى تبناها السياسى «الطيب مصطفى» رئيس منبر «العدل والمساواة» و«خال الرئيس البشير» بتغيير اسم السودان الشمالى بعد انفصال الجنوب، باسم جديد.
استندت الدعوة إلى أن الاستعمار هو الذى أطلق هذا الاسم على المنطقة كلها فى جنوب الصحراء بامتداد وسط إفريقيا، وكان يعنى «بلاد السود»، ناقشت برامج وأعمدة صحفية ذلك، وجدت عند الأديب السودانى الكبير «الطيب صالح» ما يدعم فكرة الاستعمار ودوره فى تسمية السودان وأهله، ودخلت تيارات سياسية مؤيدة على الخط، مستنكرة أن يظل السودان وحده فى كل إفريقيا السوداء، يشير اسمه إلى لون البشر، واستند أصحاب الدعوة لدول كثيرة غيرت أسماءها فى إفريقيا وغيرها، وأذكر أن السجال على المواقع والمنتديات كان كبيرا، يمتد من السخرية من محاولة إنكار «نخب» سودانية لسمرة وجوههم وأجسادهم، وينتهى إلى اجتهادات البحث عن أسماء مغايرة، حتى إن سياسيين معارضين اجتمعوا فى دار حزب الأمة خلال مؤتمر جماهيرى، كان مخصصا للتأكيد على حسن الجوار بين السودانيين بعد الانفصال، تطرقوا إلى المسألة بالاستهجان والسخرية، وقال السياسى المعارض ياسر عرمان: «نُسمّيه (البيضان) إذن، حتى نهزم الاستعمار ونرد له الصفعة صفعتين». ثم أضاف: «ماذا نفعل بالتاريخ والأشعار والآداب والأغانى التى تغنت بالسودان؟ هل نتخلص منها كلها؟».
تبخرت دعوة تغيير اسم السودان، كما تبخر معها أى نقاش جاد ومسؤول لأسباب وتداعيات ودروس انفصال الجنوب، بما سمح لذات السياسات بالاستمرار، ولتوترات جديدة، ومنازعات جديدة خلقت فى ما تبقى من السودان بعد انفصال الجنوب جنوبا جديدا من جنوب كردفان، وجبال النوبة والنيل الأزرق، لديه ذات مظالم التنمية والاستيعاب التى رحل بسببها الجنوب القديم الذى صار دولة.
مثل هذه الحكايات تتذكرها وأنت تتابع أجندة النقاش العام فى مصر، قد تستغرب أنه ليس فى أولوياتها عودة ضربات الإرهاب بعنف فى سيناء وقلب القاهرة وأحد مراكزها الحيوية «مدينة الإنتاج الإعلامى» بعد فترة من الاحتواء والنجاح الأمنى، ولا مناقشات تفصيلية لوثيقة سد النهضة التى وقعها الرئيس السيسى وتأثيرها سلبا أو إيجابا على المستقبل المائى لمصر، ولا عودة شركات توظيف الأموال فى الوقت الذى تقل فيه قيمة الفائدة على الودائع فى البنوك عن معدل التضخم، ولا مناقشة جدية حقيقية لطبيعة الدور المصرى فى حرب اليمن، وأهدافه السياسية «إن وُجدت»، ومكاسبها من حرب كهـذه، مدعومة بمعلومات حقيقية من مصادر محلية واضحة وليس من «فجر السعيد»، ولا الصراع القبلى المؤسساتى بين الجهات السيادية فى مصر، وخطورته على فكرة ومعنى الدولة.
الذين يُصدرون لك قصص «الحجاب، والموظفات السمينات، والمذيعات المناضلات بأطفالهن، وتقنين الحشيش… إلخ»، إما أنهم لم تعد عندهم ذات القدرة والطاقة والاستيعاب لفهم الأجندة الجوهرية المفروض طرحها للنقاش العام، وإما أنهم يلعبون معك لعبة «السودان أم البيضان؟!».