الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
«أبناء الصمت» وأحفاده
مسافات زمنية جاوزت العقود الأربعة تلك التى تفصل واقعنا عن زمن سطر فيه قلم الكاتب المبدع «مجيد طوبيا» تحفته «أبناء الصمت» تلك الرواية التى حولها المخرج محمد راضى إلى فيلم جسده (محمود مرسى أحمد زكى نور الشريف ـ مديحة كامل ـ ميرفت أمين ـ سيد زيان ـ السيد راضى حمدى أحمد ـ فتحية شاهين)، غير إن مسافة العقود الأربعة وواقعها تحول بمرور الزمن إلى حالة سائدة، تجسد مرارة فى حلق الوطن زائدة.

فى رواية «طوبيا» تعجن الأحرف واقعا، خالطه الإيمان والحب والوطن والعرق والأحلام المنسحقة والكبرياء المغدور، لجيل استيقظ على واقع الهزيمة فى يونيو 1967م، لتُنضج كلمات طوبيا نيران المعارك على الجبهة، ولهيب التفريط والانفراط فى العاصمة، مجسدة واقعاً لمن يذود عن الحمى ليموت من يشترى بالغالى وليحيى من يفرط فى كل شيء. واقع شديد التباين قدمه «طوبيا» بين من يحيا ساهراً على ثغور الوطن يذود، ومن يحيا فى العاصمة متحرراً من كل القيود.

يدفع أبناء الصمت حياتهم ليسددوا بها فواتير التفريط الداخلي، نيابة عمن اختزلوا الوطن فى شخوص وأمموا الوطنية شعارات تأييد، يموت المصريون الحالمون بوطن حر عزيز مرفوع الرأس بينما يحيا الإعلامى الذى يبرر، والمناضل الذى يُحَنْجِّرْ، والممثلة التى فى كل شيء تفرط، والمسئول الذى يستغل موقعه «ليُبَزْنِّس».

يحلم كل «أبناء الصمت» المصريون منذ صاغهم شخوصاً مجيد طوبيا وحتى اليوم، يحلمون بوطن فيه يعيشون لا به يتاجرون وله يؤممون، ويحلم كل نجوم العاصمة منذ عراهم طوبيا وحتى اليوم بوطن به يقتاتون وفى أوجاعه يتاجرون وعلى أشلائه يتراقصون.

المهندس الشاب أحمد رأفت - لا أعرفه إلا عبر مدونته - فى تدوينة حول رواية «أبناء الصمت» يقول (أرى نفسى بين هؤلاء أموت احتراقاً، من أجل غاية لن أراها ولن أنعم بها ولن ينعم بها أى من أحفادي. بل هى لهؤلاء أصحاب المليارات من ذوى الكروش المنتفخة والصدور العارية.. كُتِب على جيلى أن يدفع الثمن، كما كُتب على جيل الرواية أن يدفع ثمن قادة النكسة). هكذا يرى أحفاد أبناء الصمت واقعهم.

بينما يقرأ ولدى تلميذ الابتدائى لأمه سؤالا وهى تتابع مع دروسه، (ما هو أجمل مكان؟)، وتقرأ معه الإجابة (وطنى مصر)، يتوقف الصبى عن المتابعة مقاطعاً (بس دول كده بيكدبوا، مصر مش أجمل مكان، والزبالة فى كل حته حتى فى المدرسة)، ويسقط فى يد الأم حين يباغتها الصبى (أنا أصلا عاوز أهاجر)، تصدمنى الحادثة ما بين وعى الصغير بخطايا أجيال سبقت وتوهمت أن التلقين سيلغى عقول الجيل الوليد وحصره فى خانة الصمت، وبين مسئوليتنا تجاه «أحفاد الصمت»، أولئك الذين ما عادوا يستسيغون مبررات الأباء، ولا تبريرات الإعلام، ولا تفريط المسئولين، ولا شعارات محترفى النضال الحنجوري!

عاينت ـ كما عاين ـ كثيرون أحفاد «أبناء الصمت» فى زماننا، رأيتهم فى ميدان التحرير مرات عديدة، من يناير 2011، وحتى 30 يونيو 2013. لم تلونهم تنظيمات أو أجندات فقط خرجوا متدثرين بوشاح الحلم بوطن، وأعاين كما يعاين الناس فى وطنى أحفاداً لـ «أبناءً الصمت» على ثغور الوطن يرابطون وتستهدفهم رصاصات الغدر أو مفخخات الفتاوى الحارقة، ويومياً يمكنك أن تلمح عشرات الوجوه التى خلفتها عقود الصمت، تئن وهى تدور فى ساقية بالكاد تقطر ما يسد احتياجات الحياة الأساسية أو أقل، صمت طالبها بأن تشد الحزام ونسى أن يحدد موعداً لفكه فراح يعصر فى الأبدان ويحاصر الأحلام ويجبر كل أبناء الصمت فى وطنى على خوض حروب استنزاف طويلة فى سبيل البقاء لا التحرر.

فى واقع هكذا ينمو أحفاد الصمت، تلفهم دوائر من نسل الصمت الجاثم على الوطن، فدائرة تنفيذية محكومة بعلل وظيفية وبيروقراطية، وحين تصرح من على شواطىء السبع نجوم تؤكد إن (المواطن يمكنه أن يأكل بجنيه) أو إن المواطن قادر على أن يعيش (بعشرين جنيها فى اليوم)، ودائرة تشريعية غير محددة الهوية الوطنية أو السياسية أو حتى الجنسية حتى باتت قضاياها محصورة بين مناوشات شخصية ومطالبات بمراعاة العلل الجنسية وكشوف على العذرية، ودائرة توعوية إعلامية تتعالى تبريراً وتتنامى زعيقاً وتتوحش استعلاءً وتفتيتا وتشتيتاً، فضلاً عن دوائر التربص الغربية التى تستخدم الأذرع التنظيمية الإخوانية وغيرها. كان لأبناء الصمت وطن عنه يدافعون، ومع عقود السلام والانفتاح والفساد والإفساد، استحال الوطن صمتاً يطبق على الصدور والأحلام، ليخلف أجيالاً ذاقت مر أفواه صمتت ولم تذق طعم الأحرف حين تتعاشق لتسطر اسم «مصر»، وعرفت صمت الوطن ولم تعاين ملمحاً لصوته حين يصدح بالغد القادم، وصار واجباً على الراعى أن يصقل أحبال الوطن الصوتية مزيحاً عنها ركام سنوات ألجمتها بأغلال الرؤية الغائبة وقيود التصريحات المسكنة وأثقال دينية وإعلامية وثقافية مدجنة، وحين تنجلى أحبال الوطن الصوتية لن يوقف نشيده عطل فنى فى احتفالية برلمانية تاريخية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف