محمد السيد عيد
مهد له جده محمد علي باشا الطريق
مهما اختلفنا حول الخديو إسماعيل فمن المؤكد أنه المسئول تاريخياً عن ثلاثة إنجازات سياسية كبري، هي : إنشاء البرلمان، ووضع أول دستور للبلاد علي يد شريف باشا، وإن كان لم يعمل به بسبب عزل الخديو، وتشكيل أول حكومة مسئولة عن إدارة البلاد، بعد أن كان الخديو هو صاحب السلطة المطلقة. إلي جانب ذلك فهو الذي أعطي الفرصة لوسيلتين من وسائل التعبير عن الرأي كي تدخلا الحياة السياسية المصرية، ويكون لهما حق النقد، وأعني : الصحافة، والمسرح.
إسماعيل لم يبدأ من فراغ، فقد مهد له جده، محمد علي باشا، الطريق، ففي عام 1829 أنشأ محمد علي أول مجلس شوري في تاريخ مصر، كما أنشأ في نفس العام جريدة الوقائع التي تعتبر أول صحيفة مصرية. ولا نريد أن نتشعب، لذا سنركز في هذا المقال علي البرلمان.
التحق إسماعيل ببعثة الأنجال التي أرسلها محمد علي باشا إلي فرنسا 1844، وهناك تعلم من الحياة في المجتمع الفرنسي أكثر مما تعلم من المدرسة العسكرية، حيث رأي الحياة النيابية، والدستور، والصحافة، والمسرح، وتعليم المرأة، وغير ذلك من صور التقدم. ومن هنا حلم بنقل كل هذا إلي مصر، وبلور حلمه في جملة جامعة : مصر قطعة من أوروبا.
صعد إسماعيل للعرش عام 1863، وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وكانت فيه حمية الشباب، وراح يسابق الزمن، وفي عام 1866، أي بعد ثلاثة أعوام فقط، أنشأ مجلس النواب. وكان النواب يختارون في الريف عن طريق العمد والمشايخ، أما في القاهرة والإسكندرية ودمياط فيختارهم الأعيان. ولم يزد عدد النواب عن خمسة وسبعين. واحتفظ الخديو لنفسه بحق تعيين رئيس المجلس. وأعطي عضو المجلس حصانة أثناء فترة الانعقاد، مالم يرتكب جريمة القتل. ونصت اللائحة علي احترام رأي الأقلية والإصغاء لأقوالها. إنها لائحة شديدة التقدم بالنظر إلي زمنها.
يقول بعض الكتاب إن شريف باشا وزير الداخلية قال للنواب عند افتتاح المجلس : الموافقون للحكومة يجلسون في اليمين، والمعارضون لها يجلسون في اليسار، فجلس الجميع في ناحية الموافقين للحكومة. ويري الرافعي أن هذه فرية لتشويه صورة البرلمان، وأنها لم تحدث، وأخالفه الرأي في ذلك، فالمجلس جاء نتيجة رغبة خديوية فكيف يعارض أعضاؤه الحكومة ؟
وأول من تولي رئاسة البرلمان هو إسماعيل راغب باشا، أما أول المقترحات التي ناقشها المجلس فكانت تتعلق بتنظيم السخرة لتحقيق العدالة بين الناس الذين يعملون بالسخرة، فلم تكن السخرة قد ألغيت بعد، مما يدل علي أن البرلمان كان منذ الدقيقة الأولي مهتماً بقضايا الشعب التي تمس حياته اليومية. ومن أهم ماناقشه المجلس في دورته الأولي مقترح تقدم به أتربي بك ابو العز بإنشاء مدرسة في كل مديرية، وهذا يبين أن الأعضاء لم يكونوا مجرد قطيع ينساق وراء رغبات الحكومة، بل كانوا رجالاً وطنيين يسعون لتقدم البلاد. ولابد أن نربط بين هذا المقترح ومافعله الخديو إسماعيل حين كلف علي مبارك بوضع لائحة تنظم كل مايتعلق بالمدارس ( أبريل 1868 )، وهي التي سميت لائحة رجب.
تمرس النواب بالحياة البرلمانية شيئاً فشيئاً، وظهرت المعارضة بصورة تدريجية، وبدأ المجلس يقوم بدور المراقب بوضوح ابتداءً من 1876، فرأينا النائب عثمان الهرميل يطلب من الحكومة أن توضح للمجلس كيفية رد ماحصلته من أموال المقابلة، ثم انتقلت لجنة إلي وزارة المالية لتفحص بياناتها بنفسها، بعد أن اكتشف المجلس أن وزير المالية يقدم له بيانات مضللة. بل وصلت المعارضة لحد أن اقتحم النواب مبني المجلس علي غير رغبة الحكومة لممارسة دورهم.
إن في تاريخنا مايستحق أن نفخر به، وليس علينا إلا أن نعرف هذا التاريخ، ونعلمه لأبنائنا كي يعتزوا بوطنهم.