هى المرة الأولى فى تاريخ العلاقات العربية المعاصرة أن يدلى مندوب دولة عربية فى المنظمة الدولية بتصريحات ناقدة لدولة عربية أخرى لأنها أخذت موقفاً مختلفاً تجاه أزمة بلد عربى ثالث، وهى أيضاً المرة الأولى التى نسمع فيها أن موقف دولة عربية هو موقف مؤلم، وما كان لها أن تعبر عنه، كذلك هى المرة الأولى أن تؤيد دولة، وأعنى مصر، مشروعى قرارين دوليين يخصان الأزمة السورية، متشابهين فى عدة بنود، كوقف الاقتتال وتوفير المعونات ورعاية هدنة قد تؤدى إلى بدء عمل سياسى، ويختلفان فى بندين على الأكثر وهما حظر الطيران على مناطق بعينها وغربلة الفصائل المسلحة بين معتدل ومتطرف، ونظراً لأن عموم المتابعين وبعض المحللين ذوى الغرض ينظرون إلى العناوين البراقة دون الغوص فى التفاصيل، يبدو الأمر مُربكاً، ويعده البعض دليل ارتباك فى السياسة الخارجية المصرية، التى أصبحت من وجهة نظره بحاجة إلى مراجعة، والحاجة إلى المراجعة صحيحة ولكنها ليست قاصرة على مصر وحسب، فكل الذين تورطوا فى الأزمة السورية ووصلوا بها ومعها إلى هذا المنحدر الخطير، وسلموها إلى كل من هب ودب، هم أيضاً بحاجة إلى مراجعة وإلى اعتراف بالخطأ الجسيم وإلى تقديم اعتذار تلو الاعتذار للشعب السورى المغلوب على أمره.
ما سبق يخص القرارين الدوليين اللذين طُرحا فى مجلس الأمن مطلع الأسبوع الحالى بهدف وقف القتال فى حلب وتوفير آليات لنفاذ المعونات الإنسانية إلى أهلها المحاصرين، وهما قراران لم يوفق الأول الذى قدمته فرنسا بمشاركة إسبانية وحصل على تسعة أصوات من بينها صوت مصر وأجهضه الفيتو الروسى، ولم يوفق الثانى الذى قدمته روسيا ولم يحصل إلا على أربعة أصوات من بينها الصوت المصرى، وبالتالى رُفض أيضاً، ورغم تفسير مصر لموقفها رسمياً عبر المتحدث الرسمى باسم الخارجية المصرية، فما زال بحاجة إلى مزيد من التفسير حتى يعرف الجميع لماذا تتمسك مصر بأى فرصة قد تحافظ على حياة ولو سورى واحد.
أزمة هذين القرارين الفاشلين هى من حيث الجوهر نتيجة منطقية للمناورات السياسية التى تبرع فيها الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا، وهى أزمة تخص صنع القرار الدولى داخل أروقة الأمم المتحدة بالدرجة الأولى، وتؤكد بالتالى أن التناول الجاد للأزمة السورية لا بد أن ينطلق من تفاهمات كبرى بين روسيا وواشنطن، وإن لم يحدث هذا التفاهم فلن تتحرك الأزمة السورية على طريق الحل السياسى قيد أنملة، وهنا لا بد من سرد خمس حقائق تحكم الأزمة السورية ولكن يتم تغييبها عمداً، وهى:
الأولى هى أن أى طرف يتصرف باعتبار أن الأزمة فى سوريا ستتجه لصالحه، نظراً لأنه متورط فى دعم فصيل أو آخر من فصائل الإسلام السياسى سواء الإخوان أو القاعدة أو النصرة أو فتح الشام أو الجبهة الشامية أو داعش ممثلة فى تنظيم جند الأقصى الذى بايع قبل يومين فتح الشام أو النصرة سابقاً وهى فرع القاعدة فى سوريا، فهو مخطئ تماماً وسوف تُرد عليه الأثمان لاحقاً وبأكثر مما يتصور.
الحقيقة الثانية وهى أن أى طرف يتصور أنه يمكن إصدار قرار دولى يخص أى شىء فى سوريا كوقف القتال وفرض هدنة فى حلب أو فى غيرها وتسهيل المعونات الإنسانية والبدء فى عملية سياسية تحت أى مسمى كان دون أن يكون ذلك نتيجة تفاهمات حقيقية ومفصلة بين موسكو صاحبة الكلمة الأعلى فى الشأن السورى الآن، وواشنطن صاحبة اليد العليا فى إفشال المساعى الروسية وإجهاض جهود التفرقة بين الفصائل السورية القابلة للتعاون وتلك التى لا يعنيها سوى وهم الخلافة بداية من دمشق ثم باقى العواصم العربية تباعاً، فهو طرف لا يدرك المدى الذى وصلت إليه الأزمة السورية من حيث خروجها تماماً من أى تأثير عربى أو إقليمى الذى يتصوره البعض من خلال التصريحات اللاذعة بين الحين والآخر.
الحقيقة الثالثة وهى أن الأدوار العربية أو الإقليمية التى تصب لصالح أحد أطراف الأزمة السورية هى أدوار تابعة بكل ما تعنيه الكلمة من معان مادية ومعنوية، إما لموسكو أو لواشنطن، ولا تملك أى من هذه الأطراف أى قدرة على الحركة المستقلة التامة أو حتى النسبية، ومن لديه دليل على عكس ذلك فليثبته.
الحقيقة الرابعة وهى أن كل فصائل الإسلام السياسى المسلحة التى تعمل على الأرض السورية متورطة فى جرائم حرب ضد الشعب السورى وضد المؤسسات السورية، تماماً مثل الجرائم التى قام بها النظام السورى، وهى خليط من عناصر سورية محدودة وآلاف من المرتزقة من جنسيات مختلفة ولا يهمها لا حرية السوريين ولا ديمقراطيتهم ولا رفع المظلوميات عنهم، وكل ما يحركها أفكار جهادية قاعدية داعشية أساسها وهم بناء دولة خلافة إسلامية تسود العالم لاحقاً على دماء السوريين وغيرهم من الشعوب العربية.
الحقيقة الخامسة وهى أنه لا يوجد موقف عربى واحد من الأزمة السورية، وأعنى موقفاً يبنى على مبادئ وقابلية للتطبيق على الأرض، ويضع فى اعتباره عروبة سوريا وحقوق شعبها فى السلام وفى الحرية بعيداً عن التدخلات الفجة التى يمارسها البعض بالفعل لحسابات ذاتية وقصيرة النظر بالمعنى السياسى والتاريخى فى آن واحد، ومن اليسير رصد أربعة اتجاهات، منها الموقف المصرى وآخر خليجى وثالث لبنانى ورابع يقوم على الصمت والحياد. الحقائق الخمس السابقة يعرفها الجميع، ويدركون أنها عناصر حاكمة فى الأزمة السورية، لكن الشعارات تحكم أحياناً، فنجد من يتحدث عن جرائم النظام وحقوق الشعب السورى والوقوف بجانبه ودعم تطلعاته المشروعة، وذلك من باب المزايدة على الواقع وعلى السوريين أنفسهم، وفى المحصلة فإن سوريا تضيع رويداً رويداً وستأتى لحظة لن نجد فيها سوريا العربية الأصيلة، بل المهجنة بكل هؤلاء المرتزقة الذين وجدوا من يوفر لهم الأموال والأسلحة والدعاية المضللة.
أيضاً هذه الحقائق تجعل انتقاد موقف مصر الذى صوت لصالح القرارين الفرنسى والروسى انطلاقاً من أنهما يعالجان ولو جزئياً مسألتين عاجلتين، وهما وقف القتال فى حلب وإتاحة الإغاثة لأهلها المكلومين، كانتقاد مردود عليه، إذ يمكن القول إن من لم يدعم القرار الروسى فهو أيضاً لا يدعم غربلة الحركات المسلحة والفصل بين تلك التى تعبر عن قطاعات أصيلة من الشعب السورى ولها الحق أن تكون طرفاً فى أى عمل سياسى لاحقاً، وتلك التى تضم المرتزقة ومحترفى المغامرة ولا يحركها سوى العنف ووهم الخلافة.