لا يختلف اثنان على الدور الوطنى الذى قامت به المستشارة تهانى الجبالي، فى أثناء حكم الإخوان، ولا أحد ينكر أنها واحدة من القامات القانونية المهمة، ولا يمكن التغافل عن دأبها فى أن تكون بلادنا قوية، لمواجهة مؤامرات الداخل والخارج.
أعتقد أن كل من سمعها وشاهدها أو قرأ عنها، يعترف بذلك، لكن قضية رفضها خلع الحذاء فى مطار القاهرة عند مغادرة مصر إلى لبنان أخيرا، ثم إلغاء سفرها، كبوة شغلت قطاعا كبيرا من المصريين، لوزن وقيمة الجبالي، ولطبيعة التصرف، وما ينطوى عليه من دلالات سياسية وأمنية واقتصادية أيضا.
كان بإمكانها أن تلغى سفرها بلا ضجيج، أو تخضع للإجراءات التى بدأت المطارات المصرية تطبيقها، على غرار كثير من المطارات العالمية، لكن ما قامت به ربما وضعها فى دائرة الأضواء بصورة سلبية، فقد تركت مداخلاتها ولقاءاتها التليفزيونية انطباعات سيئة، بعد أن احتفظ لها قطاع كبير من المواطنين بقدر كبير من الاحترام والتبجيل.
المثير أنها صممت على الدفاع عن موقف خاطئ، ولم تجد من يؤيدها، وظهرت كأنها تريد أن تستمر الريشة التى توضع على رأس أصحاب الحظوة والحصانات، وتسير عكس الاتجاه الظاهر الذى يسعى لتحقيق دولة العدالة والمساواة، ومن خلال متابعتى للحوارات التى جرت حول وعن الأزمة التى أثارتها، وفى رواية أخرى افتعلتها، سيادة المستشارة تهاني، يمكن التوقف عند خمسة أبعاد، قد تكون تاهت أو غابت تفاصيلها وسط الصخب والضوضاء والمغالطات التى تناثرت من هنا وهناك.
الأول، إصرار المستشارة على أن لديها، ولدى قضاة المحكمة الدستورية حصانة، لطبيعة المنصب الذى شغلته، أى نائب رئيس المحكمة الدستورية، ولن أتحدث عن الظروف التى التحقت فيها بهذه المحكمة العريقة، وما يهمنى هنا توضيح، أن زملاء لها خضعوا لهذا الإجراء، لأن الحصانة جرى وضعها للحماية، وتبدأ عملها بالأساس خارج حدود البلاد فى هذه الحالة، وهذا أمر متفق عليه بين الدول، ومرتبطة بالمنصب، وتسقط مع زواله، ولأن المستشارة أصبحت على المعاش الآن، فهى فقدت حصانتها، إذا افترضنا أنها تجيز لها مخالفة التعليمات.
الثانى، الدروس الفضفاضة التى حاولت تقديمها لجموع المشاهدين، حول الوطنية والكرامة والسيادة والاحترام ووقف الاختراق وما إلى ذلك من كلمات تدغدغ المشاعر، وكأنها احتكرت الوطنية فى مصر، ومن وافقوا وأقروا التعليمات الأمنية التى تفرض ضرورة خلع الحذاء، وكل من خضعوا لذلك ورفضوا خطابها، يقفون فى الجانب المناهض، فقد حصرت صك الوطنية فى شخصها الكريم فقط، وحجبته عن الجميع، من أعلى قمة فى مصر إلى أدناها.
قليل من التواضع يصلح الأمور، كما يقولون، فلا أحد فى السلطة أو خارجها، غنيا أو فقيرا، يجرؤ على احتكار حب الوطن، وإذا كانت المستشارة أجهدت نفسها كثيرا طوال السنوات الماضية، للمساهمة فى أن تكون مصر عفية ودولة قانون، فهى نسفتها بدورها بموقف واحد، كشف عمق التناقضات بين ما تقوله النخبة الثقافية والسياسية، وبين أفعالها وتصرفاتها، وهذه نقطة تعتبر واحدة من المآسى التى نعيشها فى مصر، والتى أفقدت الثقة فى النخبة بأطيافها المختلفة، وجعلتها تظل لفترة طويلة على الهامش.
الثالث، التطورات الإقليمية والدولية، وما يموج به العالم من فوبيا الإرهاب، فرضت على دول كثيرة اتخاذ حزمة من الإجراءات الاستثنائية، لمواجهة هذا الغول، الذى لم يعد يفرق بين دولة كبيرة أو صغيرة، قوية أو ضعيفة، داخل المطارات أو خارجها، فالكل فى مواجهة الإرهاب سواء، وبالتالى كان حرى بالمستشارة أن تكون على علم بالمطالب التى تفرضها حالة الهلع الدولي، وقد تكون هناك مبالغات، أو تسييس فى المسألة من قبل البعض، لكن فى النهاية العالم أصبح مفتوحا، وأى هفوة أمنية، قد تفضى إلى نتائج سياسية واقتصادية خطيرة، ولنا فى تداعيات سقوط الطائرة الروسية نهاية أكتوبر من العام الماضى فوق صحراء سيناء عبرة.
الرابع، أزمة السياحة التى تعيشها مصر، وتأثيراتها الاقتصادية، فرضت طقوسها، فنحن أمام اختيار بين تشديد الإجراءات الأمنية لأقصى درجة، وبين الاستغراق فى الحديث عن منح أصحاب الياقات البيضاء استثناءات، تنسف الخطاب الرسمي، لذلك اختارت الحكومة الطريق الأول، وهى تدرك عواقب الرفض، هل تعلم سيادة المستشارة عدد لجان التفتيش التى زارت المطارات المصرية للاطمئنان على صرامة الإجراءات الأمنية؟ وهل تدرك أن هذه الصرامة، بلغت مراجعة كاميرات المراقبة بالمطارات ورصد حركة دخول الركاب، ومن خلع حذاءه، ومن عبر دون المرور على البوابات الالكترونية؟
أعتقد أنها سمعت وعرفت أن لجان تفتيش عدة من الصديقة روسيا زارت المطارات الرئيسية فى مصر، من أجل الموافقة على دراسة عودة تدفق السياحة الروسية، وتم قبول ما اعتبرته المستشارة «مساسا» بالكرامة، أملا فى الحفاظ على سمعة الوطن، ووقف نزيف التدهور الاقتصادي، خاصة أن هذا منهج عالمي، يصعب الفكاك منه.
الخامس، يتعلق بشركات الأمن الخاصة، التى وصفتها السيدة الجبالى بأنها تعمل فى المطارات المصرية، ومتعددة الجنسيات، وهذه واحدة من المغالطات الكبري، لسببين، أحدهما لا توجد شركات أمن خاصة داخل الدائرة الجمركية أو بعيدا عنها، والمسئولية كاملة تقع على عاتق رجال الأجهزة الأمنية المصرية، ويقتصر دور لجان التفتيش الخارجية على مراجعة كاميرات المراقبة فى أوقات مختلفة، ولا دخل مباشرا أو غير مباشر لها فى الإجراءات الأمنية اليومية.
والسبب الآخر، جميع شركات الأمن الخاصة العاملة فى مصر، خاضعة لرقابة من أجهزة الأمن الرسمية، ومن يحصلون على ترخيص بالمزاولة، لابد أن تتوافر فيهم شروط معينة، ومحل ثقة من الدولة، يعنى فكرة تدويل الشركات الخاصة، واستجلاب للذهن فرق المرتزقة المعروفة، خطيئة تمس هيبة وكرامة دولة دفعت ثمنا غاليا للحفاظ على أمنها ووحدتها، كما أنه تسطيح، يحمل صفة التشكيك فى القيادة الوطنية التى تدير البلاد، ووضعت رأسها على كفها فى ثورة 30 يونيو.
أحيانا الرغبة فى الظهور الإعلامي، تؤدى إلى البحث عن معارك خشبية، حتى يسمع الآخرون صوتها، ويتصورون أن هناك معركة حقيقية، هذه الرغبة تصاحب كل من تغيب عنهم الشمس، وهؤلاء كثروا فى الآونة الأخيرة، لذلك لم أعد أتعجب من أى شخص يمتطى جواد المزايدة بحثا عن الأضواء.. وعذرا سيادة المستشارة الجليلة، فأنت شخصية عامة، وتطرقت لقضية تهم جموع المصريين.