الأهرام
عبد المنعم المشاط
الجبهة الداخلية وصياغة السياسة الخارجية
فصلت النظرية التقليدية فى العلوم السياسية بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، واعتبرت أن الأولى تبدأ فور انتهاء الثانية، بعبارة أخرى؛ فإنه لا يوجد دور للسياسة الداخلية فى صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية للدول، مؤدى ذلك أن الدول الكبرى فقط هى التى تصنع سياسات خارجية، أما الأقاليم أو المستعمرات أو الدول الصغرى؛ فإن سياساتها الخارجية تعد انعكاسًا للنظام الدولى والنظام الإقليمي؛ ففى عصر الإمبراطوريات، وُجدت سياسة خارجية فقط للإمبراطورية، وفى القرن التاسع عشر، وُجدت سياسة خارجية لكل من الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية والمجرية وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة كدول رئيسية فى النظام الدولي، واستمر هذا الوضع حتى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحتى فى ظل الحرب الباردة، ولم يتم الربط بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، إلا بعد صدور مقالة كيسينچر عام 1966 والمعنونة “البنيان الداخلى والسياسة الخارجية”، والتى كانت تربط ربطًا وثيقًا بين الهزائم المتكررة للسياسة الخارجية الأمريكية، فى ڤيتنام، وبين الأوضاع الداخلية لها، خصوصًا انصراف المواطنين الأمريكيين عن دعم السياسة الأمريكية.

فالسياسة الخارجية لا يمكن أن تكون فعالة دون مساندة واضحة من المجتمع، ذلك أن الجبهة الداخلية تلعب الدور الرئيسى فى تحديد أهداف السياسة الخارجية، وفى هذا الإطار، يمكن التأكيد على دور الوضع السياسى والموارد الاقتصادية وطبيعة كل من الإدارة والقيادة فى وضع الأسس القوية لصياغة وتنفيذ سياسة خارجية فعالة ومفيدة، ويقصد بالوضع السياسى وجود إجماع قومى أو توافق حول الأهداف الكبرى للسياسة الخارجية، ويتشكل هذا الإجماع من خلال الوقوف على الأولويات الوطنية ووسائل تحقيقها، إلا أن السياسة الخارجية تلعب الدور الرئيسى فى تعظيم التنسيق والتعاون الخارجى بما يحقق كلاً من التنمية والأمن القومي، وكلما زادت درجة التنوع والتعددية السياسية أثرى ذلك عملية صنع السياسة الخارجية، وتثبت الدراسات التاريخية أن النظم الشمولية أو السلطوية غالبًا ما تتبع سياسة خارجية أحادية جامدة تنتهى عادةً بكوارث قومية، هكذا، كان مصير الإمبراطوريات الكبرى بما فى ذلك الاتحاد السوﭬيتي، ولهذا تعلمت الصين الدرس وتحاول إرساء قواعد التنوع السياسى بما يضفى ثراءً وتنوعًا على السياسة الخارجية، ومما لا شك فيه أن فشل السياسات الخارجية العربية فى تحقيق الأهداف القومية يعود بالدرجة الأولى إلى غياب التعددية والتنوع والاقتصار على وحدة الصف الشكلية والإكراهية.

ولا تقوم سياسة خارجية فاعلة ومتنوعة دون توافر الموارد الاقتصادية الكفيلة لمساندة الأدوار الخارجية والمبادرات الإقليمية والدولية، وتشير الوقائع التاريخية إلى أن أهم أسباب تعثر السياسات الخارجية للدول تكمن فى قصور الموارد الاقتصادية، ولنتذكر مثلاً مبادرة الدفاع الاستراتيجى للرئيس الأمريكى بيجن عام 1981؛ حيث طلب من الكونجرس تخصيص 300 مليار دولار إضافية إلى جانب 265 مليار دولار ميزانية الدفاع آنذاك، وذلك لبناء نظام صاروخى يحمى سماء الولايات المتحدة ضد أى هجوم نووى سوﭬيتي، وهو القرار الذى لم يستطع الاتحاد السوﭬيتى مجاراته نظرًا لصعوبة الأوضاع الاقتصادية السوﭬيتية، والذى أنهى على الاتحاد السوفيتى عام 1991، وفى هذا الإطار؛ فإن هناك دولاً بحكم ما حباها الله من موقع استراتيجى عليها أن تلعب أدوارًا قيادية على الأقل فى الإقليم الذى تنتمى إليه وعلى رأسها مصر، ويصير القصور فى الموارد الاقتصادية قيدًا على المبادرات الخارجية وتحمل المسئوليات الإقليمية والتأهل لدور مركزى فى الإقليم إلى حد تكريس عوامل التكامل والاندماج والحد من عوامل التفكك والتجزئة، والحقيقة أن الاستثمار فى السياسة الخارجية الذكية يزيد من الموارد الاقتصادية التى تجنيها الدولة إقليميًا ودوليًا وفقًا لتوازن القوى وبناءً على رؤية الدولة لدورها الإقليمى والدولي.

ومن جانب آخر؛ فإنه من العوامل المؤثرة على صنع سياسة خارجية متنوعة وفاعلة يأتى دور البيروقراطية وما إذا كانت قوة دفع أم عوامل قيد على حرية الحركة إقليميًا ودوليًا، ذلك أن البيروقراطية هى التى تستقبل الرؤى والمبادرات وتؤثر على طريقة وضعها موضع التنفيذ، ويرتبط بذلك ما إذا كانت البيروقراطية تستخدم أحدث وسائل التكنولوچيا فى إدارة العناصر المؤهلة للسياسة الخارجية أم لا، ولعل ذلك ما فعله كيسينچر أثناء إدارته للسياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث قام بتطوير وتحديث أجهزة إدارة السياسة الخارجية الأمريكية مما أدى إلى مساندته الكاملة فى إدارة ملفى التنافس النووى والصراع السياسى مع الاتحاد السوﭬيتى السابق، يضاف إلى ذلك أيضًا دور القيادة السياسية فى فهم وإدراك طبيعة النظام الدولى والنظم الفرعية المرتبطة به وكيفية التعامل مع جميع متغيراته سواء منها العصية أم المرنة، وفى الماضى كان بعض القادة يتمتعون بالشخصية الكاريزمية، والتى كانت تقوم بدور رئيسى فى صنع السياسة الخارجية إلا أن هذه الشخصية كانت فى نفس الوقت قيدًا على تنوع وفاعلية السياسة الخارجية نظرًا لشخصنتها وابتعادها عن الطبيعة المؤسسية. وتستمد القيادة أهميتها من قدرتها على تعبئة المواطنين والمؤسسات خلف الأهداف العليا للسياسة الخارجية.

إن الفاعلية والتنوع فى السياسة الخارجية المصرية واستدامتهما ينبعان بالأساس من قوة الجبهة الداخلية المصرية سواء فيما يتصل بالإجماع القومى على الأهداف العليا للوطن أو التوافق على الدور الذى ينبغى أن تقوم به الدولة المصرية فى الوطن العربى والشرق الأوسط والعالم أو فيما يتصل بالمبادرات التى تقوم بها مصر كدولة إقليمية مركزية، هذا فضلاً عن الإعداد العصرى للإدارة الدبلوماسية المصرية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف