الأهرام
عبد الرحمن سعد
مشغول بما لا يعنيه
"معادلة ذهبية" أرساها النبي، صلى الله عليه وسلم، بجوامع كلم؛ فيها راحة المرء والآخرين؛ ذلك أنه من أسوأ الأمور اختلاطها غير المنطقي، وعدم تركيزه فيما يخصُّه، وانشغاله بما لا يعنيه. ولنا أن نتخيل حال أمة؛ كل فرد فيها مشغول بكل شيء؛ إلا ما ينبغي أن يقوم به.. أين تكون؟ وكيف يصبح أبناؤها؟
إنه الحديث المروي: "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ".(رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح).

اعتبر "ابن رجب الحنبلي"، في "جامع العلوم والحكم"، هذا الحديث؛ "أصلا عظيما من أصول الأدب"، موضحا معناه بأنه "مَنْ حسُنَ إسلام المرء تَرك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصاره على ما يعنيه من الأقوال، والأفعال. ومعنى "يعنيه" أن تتعلق عنايته به. وجعل أبو داود السجستاني هذا الحديث ثلث الإسلام.

وقال علماء: "في الحديث أدب رفيع؛ هو أن لا يتدخل المرء فيما لا يعنيه من أمور غيره، كفضول النظر، والكلام، ولغو الحديث؛ لكن هذا لا يعني ألا ينصحه، إذا رأى منه خطأ يرتكبه".

وأضافوا أن في الحديث: "توجيها للأمة للاشتغال بما ينفعها؛ ففي حديث رواه مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ".

فمن اشتغل بالناس.. نسي أمر نفسه. ومن انشغل بأمر نفسه.. حافظ على ثروته التي لا تقدر بثمن، ألا وهي نفسه: وقته، وعمره.. صحته، وجهده؛ بل حياته. قال تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون".(المؤمنون: 3).

وفي المقابل، إذا نظرنا إلى واقع الناس اليوم؛ سوف نجد كثيرين منهم، حريصين على التدخل، في شؤون الآخرين، والإطلاع على خاصة أحوالهم.. لذا حذر السلف الصالح من انشغال المرء بما لا يعنيه، وما لا ينفعه. ولهم في ذلك أحوال، ومأثورات رائعة.

فقد قال مالك ابن دينار: "إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهنا في بدنك، وحرمانا في رزقك، فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك. فكلام الشخص فيما لا يعنيه؛ يقسى القلب، ويوهن البدن، ويعسر أسباب الرزق".

ورُوي أن "قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي" اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةَ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي؟ قال: "حفظ اللسان".

وقال الفُضَيْل بن عياض: "مَنْ عَدّ كلامَه من عمله.. قلّ كلامُه فيما لا يعنيه".

وقال الشافعيُّ لصاحبه الرَّبِيع: "لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ، ولم تملكها".

ومرَّ حسان بن أبي سنان بغرفة فقال: "مذ كم بُنيت هذه؟ ثم رجع إلى نفسه، فقال: وما عليكِ مذ كم بنيت؟ تسألين عما لا يَعْنيك؟". فعاقبَها بصوم سنة.

وقال شميط بن عجلان: "من لزم ما يعنيه؛ أوشك أن يترك ما لا يعنيه".

ودخلوا على أبي دجانة، رضي الله تعالى عنه، وهو مريض، فكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما بال وجهك يتهلل؟ فقال: "ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما".

وقال عمر بن عبدالعزيز: "من عدَّ كلامه من عمله قلَّ كلامه إلا فيما يعنيه".

وخرج الترمذي من حديث أنس، رضي الله عنه، قال: "توفى رجل من أصحابه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: أبشر بالجنة. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أو لا تدري؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا يغنيه". ( أورده الألباني في "السلسلة الصحيحة").

وروى أبو عبيدة عن الحسن البصري، قال: "من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه؛ خذلانا من الله عز وجل".

أخيرا، قال الشاعر: "اغتنم ركعتين في ظـلمـة الـليل.. إذا كنت فارغا مستريحا.. وإذا ما هممت بالخوض في بـاطـل.. فاجعل مكانه تسبيحا".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف