المساء
محمد جبريل
يوسف إدريس
لعله من الخطأ أن نقصر نظرتنا إلي يوسف إدريس باعتباره كاتباً للقصة القصيرة وحدها.. إنه فنان متعدد المواهب. فنان حتي أظافره خلاق ومبدع في كل ما كتبه. سواء كان عملاً أدبياً أو عمود رأي في جريدة.
هل أذكرك بالحرام؟.. عزيزة. امرأة الترحيلة التي دفعها الفقر إلي الوقوع في الخطيئة؟ خطيئة لم تكن مسئولة عن ارتكابها.. كان المسئول الفعلي هو المجتمع الذي جعل الآلاف من أبنائه يحيون علي هامش الحياة. يقتاتون رزق يوم بيوم. وينظر إليهم حتي أبناء جلدتهم من الفلاحين باعتبارهم كائنات غريبة.. أنت تغادر الحرام وقد اتسعت أمامك بانوراما نابضة متدفقة. في قالب روائي متماسك. وفذ. وبلا ترهلات أو نتوءات.
كتب هيكل زينب. وكتب طه حسين دعاء الكروان. وكتب الشرقاوي الأرض. وعبر حقي والبدوي وعبدالحليم عبدالله عن القرية المصرية في أعمالهم.. وهي أعمال تتفاوت في اقترابها من التفوق أو ابتعادها عنه.. أما "الحرام" فإنها ـ بلا جدال ـ أقرب تلك الأعمال إلي روح القرية المصرية. وأشدها تعبيراً عنها.. وكانت هي البداية لأعمال تالية. أجادت تناول الحياة في الريف المصري كما في قصص وروايات. محمد خليل قاسم وبهاء طاهر وعبدالعال الحمامصي وعبدالوهاب الأسواني ومحمد روميش ومحمد مستجاب وعبدالحكيم قاسم وأحمد الشيخ ومحمد البساطي وفؤاد قنديل وخيري شلبي وإدريس علي وحسن نور وجار النبي الحلو ويوسف أبو رية ومحمد عبدالله الهادي وفريد معوض وعبدالحكيم حيدر.. وغيرهم من أدباء الأجيال التالية.
أما "الفرافير" فقد قدمت نفسها كتجسيد فني للمسرحية المصرية التي لا تقف عند حد طرح المشكلات الآتية. أو تكتفي بتناول مظاهر الحياة في المجتمع المصري. لكنها تزاوج بين الفنية العالية والتعبير عن المجتمع. وطرح المشكلات ذات المدلول الإنساني في آن معاً. أحدثت "الفرافير" ـ حين عرضت علي المسرح ـ تأثيراً ـ مدوياً. وتناولتها معظم الأفلام بالتقدير واعتبرت بالفعل نقلة جديدة للمسرح المصري المعاصر. لقد احتل إدريس بها مقدمة الصفوف بين كتاب المسرح. وهو الذي لم يكن قد كتب قبلها سوي مسرحية طويلة واحدة. ومسرحيتين قصيرتين.
يقول يوسف إدريس عن فهمه للمسرح ـ أو التمسرح علي حد تعبيره ـ بأن الجمور إذا لم يكن مشتركاً في العلم المسرحي. فكأنه لم ير مسرحاً. ويضرب مثلاً بمسرح علي الكسار: كان يزاول الفرفورية. وكان هو كفرفور أهم ما في رواياته. ربما أوقف أحداث المسرحية. ليلقي بنكتة. أو ليدخل قافية مع أحد المتفرجين. وقد ينتهز فرصة كلمة تفلت من لسان متفرج طويل اللسان. لينسي الكسار الرواية تماماً. وينهال ـ بكلماته اللاذعة ـ علي المتفرج سييء الحظ.
وأذكر حين كنت رئيساً لسلسلة "كتاب الحرية" أنني حرصت علي أن يشارك في السلسلة شهود علي حياتنا المعاصرة. مثل فتحي رضوان "72 شهراً مع عبدالناصر" وعبدالفتاح أبو الفضل "كنت نائباً لرئيس المخابرات" وغيرهما.. واتصلت بأحمد بهاء الدين ويوسف إدريس. عرضت أن تصدر السلسلة كتباً لهما. هتف إدريس مرحباً: سأقدم لك كتاباً مهماً عن علاقتي بثورة يوليو.
استوضحت تفصيلات الكتاب. أنصت إليه ما يقرب من الساعتين. وهو يروي ظروف ممارسته للعمل السياسي. في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وبالتحديد. منذ التحاقه بكلية الطب. ثم تفرغه للأدب والصحافة. من خلال آراء ومواقف سياسية. تبدت في تغطيته لأحداث ثورة الجزائر. وفي تعرضه للفصل والتشريد والاعتقال. وفي تأكيده الملح. إنه يريد أن يحدث زلزالاً في الحياة المصرية!..
كان إدريس يروي. وأنا أنصت ـ في ملاحقة وإعجاب ـ للحكايات المثيرة التي شارك الرجل في صياغة أحداثها. وطلب إدريس إمهاله عشرة أيام. كي يعيد النظر فيما كتب.. وذهبت إليه في الموعد الذي حدده. ذهلتني البساطة التي أخبرني بها أنه لم يكتب حرفاً واحداً مما رواه لي. وإن كان قد تصور أنه سيفرغ لإنهائه في الفترة التي حددها.. لكن الشواغل صرفته عن الإنجاز!
وعلمت من أصدقاء أشد قرباً إلي يوسف. إنه قد يكتفي بالرواية الشفاهية. فلا يحاول كتابتها. وإنني أخطأت عندما تركته ينقل ما في ذاكرته إلي لسانه. بدلاً من أن ينقله إلي قلمه.
مارس إدريس فوفوريته معي. عاش في حالة "تمسرح" كنت أنا ضيحتها. وإن استمتعت بدلاً من المتفرج الذي أشار إليه إدريس!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف