الأخبار
د . سيد خطاب
ثقافة الدولة الوطنية «2»
إن المأزق الراهن الذي تعيشه الثقافة العربية باعتبارها ثقافة قومية تنبع من مجموعة المحددات التي وضعها مؤسسوها باعتبارها مميزات تقوم علي أساسها هذه الثقافة مثل وحدة اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك.. إلخ.
وهي التي تدعم انخراط الدول العربية بثقافاتها الوطنية في هذه الوحدة القومية وهي نفسها التي أصبحت حدودا وأسوارا تسجن كل المنخرطين في هذه الثقافة القومية ولا يجرؤ أحد علي الاقتراب من هذه الحدود وبالتالي فإن الاختلاف والتنوع في اللهجات المحلية وحتي اللغات الصغيرة الموجودة في هذه المنطقة العربية مثل الأمازيغية والنوبية والكردية وغيرها من اللغات الصغري كانت في نظرهم - بدلا من أن تكون عناصر قوة وتنوع - أصبحت عناصر خروج عن هذا السياج، وحتي الديانات الأخري كاليهودية والمسيحية والعقائد المختلفة بل والمذاهب المتعددة داخل الدين الواحد تحولت من كونها اتساعا في الأفق ورحابة في معرفة الكون وتفسيره ورغبة في التعرف علي الإله الخالق إلي مصدر للشتات والفرقة، وهي نفس الحدود التي جعلت من التنوع الجغرافي وما يحمله من ثراء طبيعي مثارا للفقر والعوز بين شعوب هذه المنطقة العربية وتحول المنتج الثقافي لهذه القومية - قاسية الحدود- كالثقافة البدوية التي التقت من خلالها دول عديدة غير قادرة علي التعامل مع الثقافة المدنية لبعض دول هذه المنطقة وما أفرزته ثفافة الساحل والصحراء من تكوين دويلات صغيرة تفاعلت مع واقعها الجغرافي وسمتها التجاري بمنطق مغاير وأحيانا متعال علي هذه الثقافة البدوية، وأصبحت الثقافات الوطنية للدول النهرية في المنطقة هي الراعي الرئيسي لتحمل أعباء تجميع شتات هذه الثقافات ووصل الأمر ببعضها لأسباب متعددة من بينها المؤامرات الخارجية إلي الانهيار أو ما يمكن ان نطلق عليه الانتحار الثقافي هذا الذي وصل بالحضارة البابلية والآشورية إلي الانهيار أمام شتات المذهبية ومأزق الجغرافيا واللغة وما صاحبه من أزمات اقتصادية.
يعتبر هذا التكوين شديد التناقض بين مجموعة الدول التي أسست جامعة الدول العربية باعتبارها معبرا سياسيا عن الثقافة القومية وما سبقها من تمهيد لتكوين هذه الثقافة أفضي إلي مزيد من التشتت والخلاف خاصة ما نتج عنه من نشوء دول حديثة العهد بمفهوم الدولة الوطنية وجدت نفسها مجبرة علي الانخراط في الأهداف التي قامت عليها هذه الثقافة القومية وأصبحت أزمة التبعية أو القيادة المنفردة - لسنوات طويلة لهذه الثقافة- معقودة علي مصر باعتبارها الشقيقة الكبري كمصدر خلاف مع هذه الدول خاصة بعدما تلقي المشروع القومي ضربة قاصمة في 1967 أدت إلي فقدان الثقة في هذه الرؤية وهذا التوجه وسرعان ما أعادت هذه الدول تمركزها حول مصالحها الوطنية بغض النظر عما يمكن تسميته بالمصالح القومية وانخرطت جميعها في علاقات منفردة مع دول العالم
مع ملاحظة أن بعض هذه الدول نشأت بعد 1967 فأصبح الخلاف والصدام المعلن أحيانا والمستتر أحيانا أخري هو عنوان العلاقات بين هذه الدول.
ولم ينجح انتصار اكتوبر في العبور بالمفهوم القومي إلي مرحلة جديدة بل ظل التناقض هو جوهر العلاقة خاصة بعد التقلبات الاقتصادية والقفزات التي حققتها بعض الدول البترولية وتراجع الركيزة الأساسية للفكر القومي اقتصاديا ومعها انقلبت هذه الدول علي مفهوم القيادة وظهرت أمراض الإحساس بالتبعية، وزادت الأمور تعقيدا بعد ان تعاظمت الروابط بين هذه الدول الغنية مع القوي التي كانت تمثل دائما مصدر تهديد للثقافة القومية.
وخلاصة القول في رأيي أن »الدودة في أصل الشجرة»‬ وأن البناء الذي قام علي تناقض جوهري بين الثقافة الوطنية والثقافة القومية هو الذي يفسر ما وصلت إليه شبكة العلاقات بين هذه الدول جميعا والمصائر المتشابهة للدول الكبري فيها وما تعانيه مصر من تنازع بين الثقافتين.
ولكن هل يكفي هذا التفسير المبسط في رؤية العالم دون النظر إلي مفهوم »‬الخلافة» التي هي أكثر تعقيدا والأكثر هيمنة علي كثيرا من أبناء هذه المنطقة وهي الأكثر اشتباكا مع ثقافة الدولة الوطنية والأكثر اتساعا جغرافيا ولغويا والتي اعتبرت أن الثقافة القومية التي حلت بديلا لها هي ثقافة معادية واشتبكت معها في معركة طويلة امتدت إلي قرن من الزمن وتمثل تحديا جديدا لثقافة الدولة الوطنية؟.. سؤال جدير بالبحث عن إجابة بل إجابات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف