محمد الرميحى
من يقرر العلاقات بين الدول ؟
انها مأساة في هذا الوقت الذي يشكل سيولة سياسية بالغة الخطورة على اوطاننا جميعا ، ما ان تحدث حادثة دبلوماسية بها اختلاف في وجهات النظر ، وهو امر طبيعي بين الدول ، حتى يندفع بعض الافراد بحسن نية او سوء نية لصب الزيت على النار ، و من ثم يقابلهم في الطرف الآخر لمن يرغب ، مرة اخرى بحسن نية او سوئها لاشعال الحريق، في كثير من الاوقات مطفئو الحرائق يتأخرون عن المجىء ! .
تم ذلك في الاسبوع الماضي بين مصر والمملكة العربية السعودية، الحقيقة ان كم التلاسن بين الاطراف التي لا تشكل رأي الدولة ، فاق المتوقع من حيث شموله وشدة التنابذ فيه ؟ لقد اصبحت مصالح الشعوب كلها معلقة على ( تغريدة) من هنا، و قول مرسل على الفيس بوك يقابلها من هناك ، وعطلت من جراء كل هذا الغبار المتناثر أعمال وزارات الخارجية و الشبكات الدبلوماسية الرصينة والمؤهلة لمثل تلك الامور ، و عرضت مصالح الشعوب للخطر ، بل وعطلت حتى العقول النيرة ذات الامكانات المعرفية في الشرح والتفسير . الامر في رأيي جلل ، لأن كلا من مصر و المملكة العربية السعودية والخليج اليوم مستهدف ، حقيقة لا ترجيحا.
فقط انظر الى الخارطة العامة في المنطقة وهي تشى بحروب بالغة التأثير و الضراوة ،و معروف في الادبيات السياسية والاستراتيجية ان (مجاورة) الحروب لا بد لها ان تنسحب سلبا بشكل ما وبطريقة ما على المجاورين. هذا امر اثبتته تجارب التاريخ الحديث الكثيرة، من الحروب المحدودة الى الحروب الكبرى . واليوم هناك حرب بالجوار المصري تؤثر على البلاد ،وهي الحرب الدائرة في ليبيا، و ليست بعيدة عن مصر الحرب في سوريا ، كما ان هناك حروبا مجاورة في الخليج اهمها ما يحدث في اليمن ، وشمالا العراق وسوريا .
من الطبيعي والامر كذلك ان الدول المجاورة لتلك الحروب تنتظم في استراتيجية تحمي بها نفسها من تداعيات تلك الحروب المدمرة ، هذا في حال ان تكون تلك الدول ليست لها وشائج انسانية واقتصادية وثقافية وتاريخية ، فمابالك ان كان الامر يتعلق بتاريخ واحد وثقافة واحدة ولغة واحدة ، وفوق ذلك كله مصلحة واحدة لا تتجزأ .
الكلام عن قانون ( جاستا) الامريكي والذي يتيح للمتضررين في كارثة الحادي عشر من سبتمبر ان يرفعوا دعاوى على الدول التي اشترك مواطنوها في الحادث ، فسوف نجد انه ليس موجها للمملكة العربية السعودية فقط ، بل و دولة الامارات ، ثلاثة من مواطنيها، ومصر ايضا شخص من مواطنيها ، نظريا يمكن ان يطال ذلك القانون كلا من مصر والمملكة العربية السعودية والامارات ، ودولا اخرى عربية في الخليج، لانها كانت ممرا او بعض ابنائها لهم علاقة، حتى من بعيد، بتلك الاحداث المأساوية.
ما يدور من حرب اقتصادية ايضا تؤثر على منظومة العلاقات مع مصر ومع الخليج من جهة اخرى ، كمثال فقط ، تعطيل باب المندب و تأثيره على الملاحة في البحر الاحمر وقناة السويس، ما هو إلا مثال واحد من بين اخرى ، ويستطيع المتابع ان يرصد العشرات من الاحداث التي تتوجه اليوم لإضعاف كل من الشرعية في مصر والشرعية في دول الخليج، استهدافا لتفكيكها و عزلها ثم الانفراد بها سياسيا و اقتصاديا وحتى عسكريا.
ما يهمني قوله هنا ان البعض كما قلت عن حسن نية او سوئها ، يدلي بدلوه بشكل سلبي في احداث جانبية ويضخمها تأجيجيا لمشاعر الشارع هنا او هناك، وهو في الغالب يعاني من نقص كبير في المعلومات اولا ، وفي الفهم السياسي للمصالح العليا للشعوب ثانيا ،وايضا يعاني نقصا شنيعا في المفردات، فيتفوه بكلمات ناشزة ، وعبارات منفعلة و استدعاء العواطف الاكثر حساسية،وكأنه صاحب القرار الاخير ، او يملك كل الحقائق او المدافع الوحيد عن مصالح وطنه .
لقد اصبحت ( الميديا) باشكالها المختلفة ،وخاصة الحديثة ، هي المكان الافضل لتفكيك لحمة العلاقات الدولية ، بل و المجتمعية على حد سواء، ومن المعروف الآن في الدراسات الحديثة ان تفكيك الهياكل في السلطة الوطنية او الاقليمية تستخدم فيه تلك الميديا بفاعلية ترفدها وسائل التواصل الحديثة ، اما عن طريق تأجيج المشاعر او تسريب انباء كاذبة وملفقة او تمرير معلومات ناقصة على انها الحقيقة كاملة، وصادف كل ذلك جمهورا قليلا او فاقد المناعة المعرفية والتحليل الصحيح ، فإن النيران تشتعل ويصرف العقلاء طاقة من المفروض ان تصرف في البناء، فقط من اجل ملاحقة تلك الحرائق واطفاء ما يمكن اطفاؤه منها . تفكيك الهياكل القائمة شهدناه على الصعيد الدولي من خلال تسريبات الويكليكس الى تسريبات التجسس على المكالمات التي فجرها ادوارد سنودن واخيرا ما قيل عن تدخل سيبراني (الاكتروني) من قوى خارجية في مسيرة الانتخابات الامريكية الرأسية .
إذن فكرة استخدام تلك الوسائل لإشاعة الاضطراب بين الجمهور وارباك المؤسسات الرسمية هي طريقة معتمدة للتفكيك و التضليل سعيا للاضعاف.
ليس جديدا القول ان محور مصر الخليج هو المحور الباقي واقفا على قدميه في مسرح الفوضى والاضطراب المصاحب للتغيرات الهائلة الحادثة في منطقتنا ،كما ان هذا المحور هو الوحيد القادر على لعب دور الانقاذ لبقية الاقليم من الفوضى ، وضرب تفاهمات هذا المحور ، التي بنيت في السنوات الاخيرة ، هو اول الطريق لايجاد خلل اولا في مسيرة التواصل بينها ، وثانيا الاستفراد بها لادخالها في حال الفوضى, المؤسف والذي يجب فضخه ان الكثير من تلك المزايدات تلبس ( العلم الوطني) وكأنها تدافع عن الوطن ،وكثير منها يقصد العكس تماما وهو اضعاف الوطن وتقطيع اوصال التواصل الايجابي مع الجوار ، كما قلت تمهيدا لاضعاف ومن ثم اسقاط الشرعية القائمة .