المصريون
جمال سلطان
هل اقتربت لحظة الحقيقة في مصر ؟!
يدرك الرئيس عبد الفتاح السيسي وأركان نظامه وأجهزة الدولة أن البلاد تقترب من لحظة الحقيقة ، لحظة الصدام الذي لا يعرف أحد حجمه ولا مداه ولا عواقبه ، ولا يحتاج المراقب كثير تأمل لكي يستشعر حجم القلق والخوف الكامن في ضمير السيسي وهو يتحدث عن القرارات المؤلمة المقبلة ، وتكرار تأكيده على أنه ليس خائفا ، وأنه قادر على اتخاذ القرارات التي خشي من سبقوه من اتخاذها ، ولكنه لا يتخذها حتى الآن ، ويقدم رجلا ويؤخر الأخرى ، هو يعرف جيدا أنها مثل مقامرة خطيرة ، كما أن حظه السيء أن وضع البلاد الآن وقبل تلك القرارات سيء بالفعل ، والناس تجأر بالشكوى الآن وقبل ما هو أصعب ، فكيف عندما تنزل "الطامة الكبرى" على رؤوس الملايين من الفقراء والكادحين والذين فقدوا الإحساس بطعم الحياة من ضغط الحاجة . هناك أكثر من إشارة تحذير للسيسي وأجهزته صدرت الفترة الأخيرة ، أكثرها بؤسا وإيلاما واقعة إقدام سائق تاكسي على حرق نفسه أمام أحد المنشآت التابعة للجيش بالاسكندرية ، والجميع يتذكر أن مثل هذه الواقعة كانت المفجر الرئيسي للثورة التونسية التي ولدت طوفان الربيع العربي ، والإنذار الآخر كان في صرخة سائق التوكتوك التي هزت الضمير الوطني وأثارت من الجدل ما لم تثره أعظم خطبة سياسية للسيسي نفسه أو غيره ، ويمكن أن تولد صرخات أخرى عديدة في الفترة المقبلة ، فحاجز الخوف تم كسره في يناير 2011 ويستحيل أن تعيد بناءه اليوم ، البنية النفسية للمجتمع اختلفت ، كما أن الظروف الموضوعية تعمل ضدك ، فهناك ملايين الآن ـ كما هو واضح ـ استوى عندها الموت بالحياة في هذا البلد ، فمن يحرق نفسه من ضغط الفقر والحاجة لا يمكن أن تخيفه بأي عقوبة ، لأنه ليس بعد الموت عقوبة ، والشباب الذين نجوا من مركب رشيد الغارقة وهم يهاجرون خارج البلاد بحثا عن "حياة" كريمة ، قالوا عبر الشاشات وأمام الجميع أنهم سيكررون المحاولة ، لأنهم لا يخشون الغرق والموت ، فهم "كده كده ميتين" حسب قول أحدهم ، هذه إشارات خطيرة للغاية ولا أظن أن الحاسة السياسية للنظام السياسي تبلدت لدرجة أن لا تستشعرها أو تدرك خطورتها . الجدل سهل ، والوعود بالعسل واللبن والياقوت والمرجان فقدت قيمتها ورصيدها ولم يعد أحد يثق فيها بعد أن تبخرت كل الوعود والمواعيد السابقة التي قدمتها علانية للناس ، والكلام ـ الحلو ـ ليس عليه جمرك كما يقول إخواننا اللبنانيون ، والنفاق الإعلامي رخيص ويحسنه كل أحد ، ودفن الرؤوس في الرمال باتهام كل من يصرخ بأنه إخواني أو أنه مدفوع الأجر أو بأنه منحرف أخلاقيا أو سلوكيا أو "مسجل خطر" ، كل ذلك لن يفيد عندما تقع الواقعة ، كل هذا الكلام سيتبخر ولن تجده ولن تجد أصحابه أنفسهم حولك ، والعاقل من اتعظ بغيره ، تذكر السادات وتذكر مبارك ، كما أن الرهان على امتلاك أدوات الردع ليس شيكا على بياض ، فلها حدود لا يمكن لأجهزة الدولة ومؤسساتها تجاوزها ، وعندما تصل بالوطن إلى لحظة الاختيار النهائي بين الحفاظ على الشعب أو الحفاظ على شخص ـ أيا كان ـ فالمعادلة ستكون محسومة وبديهية ، ومصر ـ بمؤسستها الصلبة ـ ليست سوريا ، وليست العراق ، ولن تكون . مصر بحاجة إلى مسار جديد ، وربما قيادة جديدة ، فالفشل أصبح عنوانا واضحا لتجربة السنوات الثلاث الماضية ، اقتصاديا وإداريا وقانونيا وسياسيا وأمنيا ، والمشكلة أن القيادة الحالية تتخذ العناد منهجا من أول السلم ، ولا تفكر في إعادة النظر الجذرية للمسار الفاشل ، سعيدة بنخبة محدود ومنتفعة تطبل حولها وتغرقها أكثر وتقنعها بأنها "ملهمة" ومنقذة لكن المشكلة في "الشعب" الذي لا يفهم ولا يصبر ، لم يعد هناك أي تفكير في طرح خريطة طريق وطنية جديدة ، وتعيش القيادة في العزلة الإعلامية والنفسية التي ترى الوطن والناس من خلال شرائط الاحتفالات الرسمية ومجاملات من حوله ، بل من فرط البذخ وسوء التقدير تجد "اختراع" الاحتفالات الرسمية الاعتباطية الصاخبة للسلطة كل عدة أسابيع في مصر أكثر منها في أي بلد "مترف" آخر ، في حين أن الشعب يئن من فقدان ضروريات الحياة من غذاء ودواء أو فرصة عمل ، هناك حالة انغلاق عقلي وشعوري كامل الآن للقيادة ، تشعرك أن هذا هو "آخر ما عندها" . أشار السيسي إلى الأحداث المتوقعة يوم 11 نوفمبر المقبل ، حيث هناك دعوات مجهولة للتظاهر ، وقلل من شأنها ، وهي دعوة غامضة ولا يعرف أحد من وراءها ولا حجمها ، ولكن على كل حال ، الخبرة المصرية مع أداء وإدارة "المجلس العسكري" للشأن العام ـ وكان السيسي أحد أعضائه ـ بعد ثورة يناير يجعلني أرجح أن أي قرارات اقتصادية صعبة وخطرة لن يتم إصدارها قبل 11 نوفمبر ، وأعتقد أن هذا التاريخ والدعوات الغامضة للغضب فيه هو السبب الرئيسي وربما الوحيد لتأجيل القرارات المؤلمة التي يعرف الجميع ، داخل مصر وخارجها ، أنها جاهزة ومفروغ منها ، لكن تأجيل القرار لأسبوعين أو ثلاثة لن يفيد كثيرا ، فانفجار الغضب لا يحدد بتاريخ ، والثورات ـ كما نبض الزلازل ـ يصعب أن تتكهن بوقتها أو بحجمها وآثارها ، وهذا هو الخطير .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف