أعتذر عن الاستشهاد. ولكن الضرورة تحكم أحياناً. عندما استمعت إلى أم الشهيد تحكى عن ابنها التى جعلت عينىَّ تدمعان. مع أن دمعى عزيز، بل ربما كان نادراً وأكثر من نادر. تذكرت السطور الأولى من روايتى: أربع وعشرون ساعة فقط. كتبت يومها وكان ذلك فى تسعينيات القرن الماضى:
- لأن الله سبحانه وتعالى كان يريد لرحمته أن تصل لكل مكان فى الدنيا، ولكل كائن على وجه الأرض. خلق الأمهات.
والأم أم. صحيح أنها لكى تنجب لا بد من أب. لكن تبقى الأم هى الخندق العاطفى لكل إنسان فى الدنيا. مهما كان وأياً ما كان موقفه من أمه. فالأم تبقى هى الأم دائماً وأبداً.
فى الندوة التثقيفية الثالثة والعشرين التى أقامتها القوات المسلحة يوم الخميس الماضى فى مسرح الجلاء استمعت إليها. والندوة التثقيفية تقليد جديد فى قواتنا المسلحة عقدت منها حتى الآن الندوة الثالثة بعد العشرين. وقد عرفتها القوات المسلحة مؤخراً. ربما عندما كان الفريق أول ثم المشير عبد الفتاح السيسى وزيراً للدفاع. وبعد أن أصبح رئيساً للبلاد حرص على أن يحضرها كل عام. وربما كانت تقام أكثر من مرة فى العام الواحد.
ورغم طول الوقت الذى تستغرقه الندوة الذى يتجاوز أحياناً الساعات الخمس. فإن الرئيس رغم ارتباطاته ومشاغله، وربما هموم مصر الراهنة أمامه فى كل وقت. فإنه كان يحضر الندوة ولا يترك فعالية واحدة فيها. يحضرها منذ البدء وحتى الختام.
ندوة هذا العام أقيمت تحت خيمة أكتوبر. حتى عنوانها كان عن أكتوبر التحدى والإرادة، واستمعنا فيها إلى شهادات من أبطال أكتوبر الذين قاموا بأدوار حقيقية فى تلك الحرب العظيمة. وقد أعجبنى أنهم ارتجلوا شهاداتهم. لم يقرأ أحد منهم من أوراق أمامه. ربما لأن القراءة من الأوراق تقيم فاصلاً بين من يقرأ من الورقة ومن يستمع إليه.
ورغم كثرة الأسماء فى شهادات أبطال أكتوبر ودقة التواريخ والأزمنة. فقد ارتجل الأبطال شهاداتهم العظيمة التى ذكرتنا بأيام مجد وفخار عشناها، ولم يبق لنا سوى أن نتذكرها كلما حلت علينا الذكرى كل عام. مع أن أكتوبر لا يجب أن يظل ذكرى. فما زلنا فى انتظار العبور الثانى إلى الداخل حاملين معنا رايات أكتوبر وطريقة أكتوبر فى الأداء ومشروعه فى التفكير الذى لو نفذناه فى الداخل لأنقذنا أنفسنا من كثير من المشاكل التى نعانى منها كل يوم.
عندما جاء الدور فى الكلام عن معركة المزرعة الصينية، وكان بطلها المقدم محمد حسين طنطاوى، المشير طنطاوى الآن. كان جميلاً من إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، ورئيسها اللواء محسن عبد النبى استحضار شريط قديم للمشير طنطاوى. كان يحكى فيه ظروف وملابسات المعركة التى كان قائدها. وكانت من أنبل وأشجع معارك أكتوبر. حيث استمعنا واستمع معنا المشير طنطاوى إلى المقدم محمد حسين طنطاوى، عندما كان شاباً يحكى بتدفق وتلقائية تفاصيل تلك المعركة التى لعبت دوراً فى اتجاه حرب أكتوبر، وفى تحقيق نصره العظيم.
عندما جاء دور السيدة: سامية محمد عطية، والدة الشهيد: إسلام المحمدى. وقفنا جميعنا أمام مشهد من النادر أن يتكرر. فبعد أن انتهت السيدة سامية من شهادتها التى ارتجلتها. صعد الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى المسرح. وقبَّل جبهتها. وهذا حدث منه من قبل. لكن الجديد الذى لم يحدث أبداً لا منه ولا من أى رئيس سابق لمصر أنه انحنى ليُقبِّل يدها.
قال لنا إنه قبَّل يد السيدة سامية باسمنا جميعاً وباسم المصريين جميعاً. كانت لفتة إنسانية نادرة منه يفاجئنا بها كلما كان هناك حدث مهم فى تاريخ البلد. فالرجل يتصرف بتلقائية المصرى الأصيل. ويبتعد كثيراً عن التكلف. ولم يبعده عنا المنصب ولا الإجراءات البروتوكولية التى تسبق حركته وتواكبها وتأتى بعدها.
السيدة سامية أم الشهيد، عندما تكلمت أنصتنا جميعاً لكل حرف قالته. ورأيت الحضور، ابتداء من الرئيس عبد الفتاح السيسى، وانتهاء عند كاتب هذه السطور، وبيننا جميع من حضروا يمدون أياديهم ليجففوا دموعهم أمام التلقائية التى تكلمت بها، والبساطة التى حكت بها. وهى مثل كل الأمهات المصريات حكَّاءة من النوع النادر. تحكى تجربتها. ولأن الكلام عندما يخرج من القلب، يصل إلى القلب مباشرة.
قالت السيدة سامية: لو لم يستشهد ابنى، ما كنت أرى هذا الجمع الجميل. أحمد الله أنه أنزل علىَّ السكينة والصبر.
ثم حكت حكاية ابنها الذى عندما كان طفلاً لم يطلب منها من لعب الأطفال المعروفة سوى البندقية والمدفع. وكان يعد نفسه من اللحظة الأولى لكى يكون ابناً من أبناء القوات المسلحة وينال شرف الدفاع عن مصر. حاول دخول الكلية الحربية، لكنه لم يوفق. ثم استكمل تعليمه. وعندما طلب من أجل الجندية، كان سعيداً. وكأنه أتى إلى الدنيا من أجل هذه الرسالة.
حزن الأم لا تصفه الكلمات. والأم التى تتكلم عن ابنها الشهيد تحتاج معجزة كى يصدقها من يسمعها. لأن قلب الأم هو قلب الأم. وقد صدقت كل كلمة قالتها. رغم أنى لم أتصور هذا القدر من الثبات والشجاعة والإيمان عند أم استشهد ابنها وهو فى أول حياته. واستشهد لأنه كان يريد أن يستشهد. إنسان أتى إلى الدنيا لكى يصبح شهيداً. شهيد تحت الطلب، شهيد بالتصميم على أن يكون شهيداً.
بدأت باستشهاد شخصى، وها أنا أختم بمثله. فبطل روايتى: الحرب فى بر مصر، التى أصبحت فيلما: المواطن مصرى، شهيد. أصطحبه فى رحلة العودة من الميدان إلى قريته. وما جرى فى نوبة الرجوع إلى القرية خرج منها على قدميه. وعاد إليها فى سيارة نقل موتى. ثم حدثت الوقائع التى لن أتطرق إليها. المهم أنه كان شهيدا من زماننا.