الأخبار
عبد الحليم قنديل
أيتام أمريكا
المرضي بالتبعية المزمنة وحدهم، هم الذين ينتظرون نتائج الانتخابات الأمريكية الوشيكة، وقد يفضل بعضهم فوز »المعتوه»‬ ترامب علي أمل أن يساعدهم في مواجهة تيارات بعينها، فيما يأمل آخرون بفوز »‬النصابة» هيلاري كلينتون، وعلي ظن أنها قد تكون سيدة القبضة الحديدية في مواجهة تغول النفوذ الروسي، الذي يعود إلي المنطقة بقوة، وينشر قواعد تأثيره وسلاحه في المشرق العربي بالذات، انطلاقا من دوره الذي صار محوريا وحاسما في تفاعلات الأزمة السورية.
وربما لا تكون من حاجة لأحد إلي فهم ما هو مفهوم، وما توالت حوادثه مئات المرات، فشخص سيد أو سيدة البيت الأبيض ليس العنصر الأساسي، والسياسة الأمريكية مؤسسية تماما لا فردية، وحصيلة توازن ومطامح ومصالح عسكرية واقتصادية، تشكل ما قد تصح تسميته »‬الدولة العميقة» في أمريكا، وهي أقوي من حركة الأحزاب ودعاية المناظرات ومواسم الانتخابات، فالمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، و»لوبيات» الضغط الكبري، وأجهزة المخابرات ومراكز التفكير، هؤلاء هم الذين يصنعون الحدث، ويتحكمون في قرارات الكونجرس، ويصوغون أولويات ساكن البيت الأبيض في السياسة الخارجية بالذات، وحين تتغير السياسة، فلا يتم ذلك بمشيئة رئيس، وإنما علي أساس برجماتي صرف، تحكمه حسابات النفع والضرر، وحين خالف أوباما سلفه جورج بوش الابن، ومال إلي الانسحاب العسكري، وتخفيف التورط في مستنقعات العراق وأفغانستان، فلم يفعل أوباما »‬الأسود» ما فعل لأن »‬قلبه أبيض»، أو لأنه رجل سلام عالمي، منحوه جائزة نوبل، فلم يشهد العالم عنفا وحروبا واضطرابا، كالذي شهده في ولايتي أوباما الموشكتين علي النهاية الآن، ولم تكف أمريكا عن التدخل، وإن بطرق بدت أكثر أمنا وأقل تكلفة، وعلي طريقة غارات الطائرات بدون طيارين، والتي صعد استخدامها إلي الرقم القياسي الدموي في زمن أوباما، وبهدف خفض تكلفة الدم التي تدفعها أمريكا، وكذا خفض التكاليف المالية الباهظة في حروب التدخل البري، فقد كادت أمريكا تفلس بسبب فواتير التريليونات المدفوعة في حروب أفغانستان ثم العراق، وكان تدخل أمريكا البري لاحتلال العراق هو آخر عشاء لوهم القوة الباطشة المنفردة، وقد قلنا قبل عشر سنوات ما صار حقيقة حاكمة لتفاعلات اللحظة، قلنا إن أمريكا لن تتدخل بريا، ولن يحارب جنودها علي الأرض بعد تجربة العراق، فقد ذهبت واشنطن إلي العراق بظنون ذهبت هباء منثورا، ذهبت لتمد في عمر سيطرة القرن الأمريكي علي العالم، ذهبت علي ظن أنها قطب العالم الوحيد المهيمن، ذهبت لتبني قصرا شاهدا علي ملكها الكوني وعظمتها الأبدية، ولم تبال بالتغير الذي كان ظاهرا في خرائط وموازين الاقتصاد والسلاح في العالم، وتصورت أن ساحات الدنيا قد صارت فارغة إلا من قوتها بعد زوال سيرة الاتحاد السوفيتي القديم، وكان ما جري حصادا مستحقا لمغامرات الأوهام، فلم تبن أمريكا »‬قصرها» الكوني الموعود في العراق، بل كانت في الحقيقة تحفر قبرا، وتكتشف في امتحان الدم والنار، أن قدرتها وقوتها ليست مطلقة، وأن مجدها التكنولوجي في حروب السماء والجو والصواريخ المنطلقة من بوارج البحر، كل ذلك لا يعفيها من دفع فواتير مهلكة، إن هي فكرت في النزول إلي الأرض، وإزاحة خصومها غصبا وقهرا، وهو ما فهمته، وتصرفت علي أساسه الأطراف الأخري الطامحة في لعب أدوار إقليمية ودولية، واستفادت بنقطة الضعف الأمريكي القاتلة، وعلي نحو ما فعلت إيران التي استهانت بتهديدات أمريكا الحربية »‬الفشنك»، وإلي أن حصلت علي اتفاق نووي مريح حفظ لها ما حققت من نفوذ ومقدرة علمية وعسكرية. وبرغم أن »‬العينة بينة»، والقصة صارت مفهومة من فرط تكرار حوادثها بمعني متطابق، جوهره أن أمريكا تظل »‬قوة عظمي»، لكنها لم تعد »‬القوة العظمي» بألف ولام التعريف، فقد دخلنا إلي عالم متعدد الأقطاب، وكانت حرب العراق هي المشهد الأخير الختامي لوهم هيمنة القطب الأمريكي الوحيد، بينما بدت حرب سوريا عنوانا وحقل تجارب، يفتتح عصر التعدد القطبي، فلم تعد أمريكا تملك أكثر مما يملكه غيرها من الأقطاب الطالعة أو العائدة، بل ربما كان الوزن الأمريكي في سوريا أخف وأقل من دور قوة إقليمية كإيران، ولا يقارن بالطبع إلي ثقل وزن روسيا المقتحمة لدور تبدو مستعدة لأداء تكاليفه، ومع فارق محسوس، هو أن أمريكا ليست مستعدة، ولا تري لها مصلحة من وراء خوض حرب مباشرة في سوريا، حتي لو ظلت طبول الأيتام تدق بإلحاح، وتنادي »‬ماما أمريكا» برجاء النجدة والتدخل لمواجهة روسيا، وقد قالتها »‬ماما هيلاري» بوضوح، وأعلنت أنها لن تدخل حربا برية في سوريا لو فازت بالرئاسة، والمعني ظاهر ناطق، وقد يصدم هؤلاء الذين ينتظرون قوة هيلاري قياسا إلي ما تصوروه من ضعف وتردد أوباما، فلن تمنحهم هيلاري سوي لغة لسان مدربة محترفة، ولن تخاطر أبدا بالتورط في مواجهة حربية مع روسيا، قد تتطور إلي حرب عالمية لا تبقي ولا تذر، تجنبتها واشنطن وموسكو دائما بسبب توازن الرعب النووي، وقد تسعي واشنطن بعيدا عن الحرب المباشرة، وتلجأ لخطة استنزاف روسيا عبر جماعات الوكلاء ومموليها في الميدان السوري علي طريقة أفغانستان القديمة، وإن كانت روسيا فيما يبدو قد استوعبت الدرس، وتلجأ لطرق أخري تجنبها مصائر الاستنزاف طويل الأمد، بينما تبدو أمريكا أخوف من روسيا، وأشد حرصا علي تجنب ما جري لها من استنزاف الدماء والأموال في حرب العراق، وهي تكسب أكثر حين لا تتورط مباشرة في حروب، وحين تلجأ إلي الحروب بالوكالة، وتجد دائما من يستعدون لدفع مئات المليارات من الدولارات، حتي لو كانوا من المستهدفين بقانون »‬جاستا» الأمريكي الفظ النهاب المتعجرف، والذي تؤيده هيلاري بشدة، وتنعي علي أوباما استخدامه للفيتو الرئاسي الذي أحبطه الكونجرس، فأمريكا هي الأعلم بنفوس مدمني عبادتها من دون الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف