يختمر الوطن فى أوعية القلوب لتسويه حرارة اليقين، وطنا قابلا للخلود فى وعى مواطنيه، وقادرا على أن يُوَرَث قيمة لا تتراجع يسلمها جيل إلى آخر، وقاهرا لكل محاولات نفيه اغترابا داخليا أو غربة خارجية تأكل العمر وتفرم الحنين.
يختمر الوطن فى أوعية القلوب لتكتمل دائرة الحياة ثنائية الأطراف بين مادة وطن يحمل خلايا التخمر الأولية، ووعاء مواطن نابض بالأمل فى غد يحياه فردً فأُسْرَة فمجتمع، وبغير خميرة الوطن الحية ونبض الأمل الدافق تصبح الأوطان شعارات يتاجر بها قلة تتربح، ويستحيل المواطن سكيرا تحمله سكرات الحاجة على إيقاع وجع دائم يترنح.
يُرتل إمام المسجد العتيق فى صلاته «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِى أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ»، خطاب ربانى يوجه إلى الإيمان برب البيت، الذى يحمل ضمن ما يحمل من أوجه التأويل رمزية الوطن والمواطن، ليقترن الإيمان بخالق الوطن بحقوق المواطن الأساسية، حق المؤنة -التموين- القادر على سد الاحتياج، والضامن لئلا يجور المواطنون أو يعوجوا بدافع العَوَزْ، وحق الأمان الذى يحفظ المواطن من أشباح الخوف على النفس أو العرض أو المال أو الحرية الشخصية. الخطاب القرآنى تجاوز مجرد الولاء للوطن إلى الإيمان برب الوطن ليدلل على النعم الموصلة للإيمان بضمانه حقوق المواطن الأولية، وليختمر الإيمان فى أوعية القلوب المطمئنة على استقرار أسباب الحياة.
يخرج المواطنون من المسجد العتيق بعدما رددوا (آمين) خلف الإمام، كان أسلافهم منذ عقود يخرجون مجموعات تتعاشق فيهم منمنمة الوطن نسبا وصهرا وصحبة، لم يك يشككهم فى إيمانهم مدع عاد من بلاد النفط بدين يصنف أفعال المحبة على أنها بدعة، وما كان يفت فى وحدة صفهم معول تنظيمات يجهر بالدين ويبطن شهوة الحكم، وكان حلال الوطن فى الألباب جلي، وحرامه فى الضمائر بيِّن، واليوم يخرج الخَلَفْ من المساجد فرادى بعدما قطَعَّت أرحامهم مقصات الغلظة ومشارط الطمع، وسكاكين القوانين المعطلة، فرادَى العبادة قلبا وإن كانت جماعة قالبا، فرادى التوجه مواطنَة وإن أمست الفتن بالوطن محدقة، فرادى الانتماء يعبدون ويعتقدون وينسحقون، ليغدو الحلال ما تفرضه الحاجة، ويصير الحرام ما يسنه الاحتياج. إن الواقع المحدق فى محيطنا الإقليمي، والمتمثل فى أوطان تنسحق ماديا ومعنويا وجغرافيا، يدعونا فرضاً إلى إعمال النظر فى واقع مكونِ الوطن الأساسى وخليته الأولية (المواطن)، بهدف أساسى هو (ابتعاث روح المواطن للنجاة من حالة شِبْه الوطن ــ الدولة). الرئيس عبد الفتاح السيسى وهو المفوض بالإدارة من قبل صاحب السيادة الذى هو الشعب، قام بتوصيف الواقع الإدارى للدولة المصرية مؤكدا (أننا نحيا فى شبه دولة)، وللرئيس فى هذا التوصيف دلائله وهو الذى كان يترأس واحدا من أجهزة الدولة الأمنية الكبرى، وهى بالتأكيد تفوق ما يعتمل فى صدر صاحب السيادة ذالشعب- بمكوناته. وهذا التوصيف يدعونا إلى تجاوز واقع الإصلاح الإدارى إلى حقيقة الإنقاذ الوطني، حيث إن تهديدات الواقع بلغت حد تهديد البقاء لا مجرد تقييده، وبالتالى صار من الحتمى إعادة القضية إلى جذورها ليتعرى الداء المتمثل فى (شِبْه مواطن) خَلَف بشيوع قيم الشبهية أشباها لطقوس الحياة، عبادة وعملا، وواجباتها رعاية وتربية، وحتى متعتها حبا وجنسا، تحول المواطن إلى شبه متدين لا مؤمن، وشبه مسئول لا مسئول، وشبه موظف لا موظف، وشبه فنان لا مبدع، وشبه شيخ لا عالم، وشبه قس لا راع، وشبه زوج لا حبيب، وشبه أم بلا دفء، وحتى شبه عارية لا راقصة، وهكذا استحالت هذه المكونات وأشباهها (شِبْه وطن)!. وفى ضوء هذا التوصيف الدقيق يكون أول واجبات الوقت هو إنقاذ المواطن من عِلَة الشبهية، عبر استيعاب من المكلف بالإدارة لأهمية الإنقاذ، وهو ما يترجمه الفهم الدقيق لمؤهلات استرداد أوعية القلوب الموقنة بوجوب الإيمان بالوطن كخطوة أولى نحو استرداد الإيمان الصادق بالله، وهذا لا يتم إلا عن طريق إحياء الحقوق التى اعتبرها الله فى قرآنه نعما تؤهل للإيمان، وهى التى تبدأ بتوفير الأمان الغذائي، وتنتهى بصيانة الأمن الشخصي. إن مصر الوطن والمواطن تدفع هذه الأيام فواتير عصور الفساد والإفساد التى ولت، حين اختزال الوطن فى شخوص، وأُمِمَ الدين لصالح التنظيمات، واحتكرت الوطنية لصالح المصالح، وفرضت الفرقة شعاراتها مواثيق حياة فردية من نوعية (أنا ومن بعدى الطوفان)، حتى غدا الوطن فى وعى المواطن صورة يعلوها ركام الحاجة، وبات هذا الواقع هدفا يعمل على ترسيخه كل المتآمرين على مستقبل هذا الوطن. لكن إنقاذ المستقبل الوطنى لن ينجح فى ظل حالة الاستهداف إلا عبر مسارات الأمان الأولية سالفة الذكر، وهى بالتأكيد لن تتحقق طالما يسير الجهاز الإدارى للدولة والحكومة فى القلب منه بمنطق أشباه الموظفين، وطالما بقى سيرك التشتيت والتفتيت الإعلامى منصوبا، وطالما ظل أصحاب الرؤى السياسية والحزبية حبيسى جدران مقارهم الباردة. إنها مصر الوطن القديم والمواطن الأقدم، فلا تفرطوا فى أوعية قلوب عتيقة الوطنية إن انجلت سيختمر الوطن قويا عزيزا مستقلا بقرار صاحب السيادة فيه الشعب.