الوطن
د. محمود خليل
زحمة راس..!
علّق عدد من الإعلاميين والمتابعين للشأن العام فى مصر على طوابير المواطنين ببنك الإسكان والتعمير لحجز الوحدات السكنية فى «مدينتى والرحاب»، ووظفوا هذه الطوابير كدلالة على أن الفلوس تجرى فى أيدى المصريين، وأن الكلام عن الفقر والعوز وخلافه يجب ألا يؤخذ على عواهنه، فى إشارة واضحة إلى أن مواطنين كثيرين يكنزون الأموال فى بيوتهم ويدّعون الفقر، وأن الشكوى جزء من ثقافة المصريين، أو بعبارة أخرى ادعاء الفقر، رغم الأموال التى تجرى فى يد بعضهم.

قول حق لكن يراد به باطل. هناك مواطنون لديهم مكتنزات مالية كبيرة، نعم، ولكن ما هى نسبتهم إلى بقية المواطنين؟. هل الزحام على حجز الشقق هو الشكل الوحيد للتزاحم فى مصر؟. الإجابة المؤكدة لا، فالبتزامن مع طوابير الشقق، كانت هناك طوابير أمام الجمعيات الاستهلاكية للحصول على السكر، وزحام على سيارات القوات المسلحة التى توزع السلع الرخيصة على المواطنين، وزحام على إحدى السيارات التى كانت توزع «فياجرا»، كما رصد موقع اليوم السابع. الزحام فى مصر فى كل مكان، فى المستشفيات والجامعات والمساجد والكنائس والشوارع، أينما ذهبت إلى أى مكان فى مصر ستجد زحاماً، وهو فى كل الأحوال لا يُعد مؤشراً موضوعياً على حالة المجتمع. فلو ذهبت إلى المستشفيات ورصدت التزاحم عليها ستقول إن مصر كلها مريضة، ولو عرجت على إحدى الجامعات، ستقول إن مصر كلها جامعية، ولو ذهبت إلى إحدى المدارس الحكومية ستقول إن مصر كلها تلامذة، ولو ركبت أحد مراكب الهجرة غير الشرعية ستقول إن مصر كلها مهاجرة، ولو رحت مع من راحوا لحجز شقق مدينتى والرحاب ستقول إن مصر كلها غنية!.

هذه الاستخلاصات كلها غير موضوعية، نحن شعب يزيد تعداد سكانه على 90 مليون نفس، حشروا أنفسهم فى رقعة لا تزيد على 3.5% من مساحة بلادهم، لذلك من الطبيعى جداً أن تجد زحاماً حيثما حللت أو نزلت، زحاماً يعبّر عن الكثرة العددية، سوء التوزيع الجغرافى ليس أكثر. من يسترشد بطوابير مدينتى والرحاب مُغرض ويريد أن يرى الصورة من زاوية واحدة، ومن يركز على طوابير السكر واللحوم وغيرها من السلع أمام منافذ التوزيع رخيصة الثمن لإبراز المشكلات مُغرض أيضاً، لأنه مثل غيره يختار زاوية واحدة للرؤية. فى زمن الاستقطاب يصبح «الأعور» الذى يرى بعين واحدة خير من المبصر الذى يرى بعينيه. الاستقطاب ببساطة يعنى التهليل لزاوية واحدة من زوايا الصورة والعمى عن غيرها، إنه تعبير عن «زحمة راس» وليس «زحمة واقع»، والنتيجة الحتمية التى تترتب على التهليل هى التضليل. مشكلة أن نمارس الإعلام والسياسة والاقتصاد بمنطق مشجعى كرة القدم. مشجع الكرة ينحاز إلى فريقه على طول الخط، سواء أحسن أو أساء، انتصر أو انهزم، ويغمض حق الفريق المنافس إذا أجاد، ويحزن حين ينتصر، ويشمت فيه شين ينهزم. هذا المنطق فى الانحياز يؤدى إلى الفشل، ولو كان لهذا المنطق أية قدرة على تحقيق النجاح لأفلحنا فى تحقيق شىء فى عالم الكرة. فارق كبير بين الوعى بأن التحيز جزء من الطبيعة الإنسانية، وبين القناعة بأنه كل الإنسان..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف