استيقظ «المواطن كاف» مبكرا كعادته، ورغم أن اليوم هو عيد ميلاده فقد خرج إلى عمله فى أحد البنوك الشهيرة.
كاف رجل تقليدى يعيش حياته ملتزما دون تهور أو مغامرات غير محسوبة، يطيع الأوامر والتعليمات، ويتميز بالدقة مثل أى محاسب ناجح، لكنه فى ذلك اليوم فوجئ بالقبض عليه لاتهامه بارتكاب جريمة ما.
كانت التهمة غامضة ومحيرة، فالمواطن كاف لم يعرفها، ولم يعرفها أيضا أحد من زملائه، ولم أعرفها أنا ولا أنتم، فهى مجرد تهمة بلا وجود فى الواقع.
هرب «كاف» من قوة الاعتقال، فى البداية كان الخوف هو الدافع الأساسى للهروب، لكنه بعد أن هدأ قليلا فكر فى طريقة لإثبات براءته، حتى لو لجأ إلى «باب العدالة» فى السماء.
بالفعل توصل «كاف» إلى الباب، لكنه وجد أمامه حارسا قويا، ولما طلب منه الإذن بالدخول رفض الحارس، فالتزم «كاف» وجلس يفكر فى صمت وهو يردد قناعاته (داخل نفسه) عن حق كل مظلوم فى اللجوء إلى السماء عبر باب العدالة.
كانت قناعاته مجرد أفكار يتداولها فى سره حتى لا يسمعه الحارس، لكنه فى العلن امتثل للتعليمات، وبعد أن طال انتظاره عاد ليناقش الحارس القوى فى طلب الدخول، فقال له بخبث: «لن أسمح لك، يمكنك أن تدخل بالقوة، لكننى أحذّرك، فأنا عنيف ومدرب جيدا، وحتى إذا تمكنت من الإفلات منى فأنا لست وحيدا، فى الداخل حراس عتاة يعتبروننى الأقل قوة بينهم، وأنا شخصيا لا أستطيع أن أحتمل نظرة واحدة من أحدهم، فهل تستطيع أنت؟!».
خاف «كاف» وامتثل، فابتسم الحارس وأعطاه مقعدا صغيرا يجلس عليه فى الجهة المقابلة للباب، بين الحين والآخر كان «كاف» يترك كرسى الانتظار، ويقترب من الحارس ليزجى الوقت بالحديث، ويحاول التودد وتقديم بعض الرشى ربما يتعاطف معه الحارس ويسمح له بالدخول!
مع الزمن قدم «كاف» كل ما يملك كرشوة للمرور، تراجعت قضيته، وصارت ممانعة الحارس هى قضيته المركزية التى تشغل كل تفكيره، لم يعد يفكر فى أى شىء سوى الحارس الذى يقف فى طريقه، يلعنه مرة ويسترضيه مرة، وفى كل المرات يسأله فى خضوع:
متى تسمح لى بالدخول؟
هل تعرف متى يأتى الإذن لأعبر الباب؟
كيف تعرف أنّه أتى؟.. لا تنسَ أن تنبهنى عندما يأتى الإذن!
ذات يوم سقط «كاف» على الأرض من الإعياء والتعب، وشعر أن حياته مرت فى انتظار عبثى، لكن الغريب أن أحدا غيره لم يأتِ للدخول من هذا الباب، فأشار للحارس الذى اقترب منه ليسمع سؤاله الأخير، قال «كاف»: إذا كان هذا هو باب العدالة، فلماذا لم يأتِ غيرى للدخول طوال كل هذه السنين؟ أليس فى الأرض مظلوم آخر غيرى؟
رد الحارس: هذا الباب مخصص لك وحدك، وكان عليك أن تدخله دون أن تطلب الإذن، لكنك لم تفعل، والآن انتهت مهلتك، وسوف أغلق الباب إلى الأبد.
لا أعرف سر انجذابى لهذه القصة الغريبة من بين أعمال التشيكى المعذب فرانتس كافكا، التى تمت ترجمتها إلى العربية مرارا باسم «القضية» أو «الدعوى» أو «المحاكمة»، ربما تذكرنى بعبارات من نوع «الحرية تنتزع ولا تستجدى»، وربما تذكرنى بشعار ثورات الربيع العربى «الشعب يريد..» (وإذا أراد سيستجيب القدر)، لكن الشعار المستلهم من قصيدة أبو القاسم الشابى لم ينفع المواطن «كاف»، ولم يكن ترديده كافيا للمرور عبر «باب العدالة»، لذلك ظل «كاف» مظلوما، حائرا، مرتبكا، ممزقا بين الرهان على إرادته الذاتية وسطوة قدر إغريقى يحاصره فى قلعة تراجيدية مع بقية كائنات «كافكا» التى تسحقها قوة بطش. يقول الجميع (من دون أن يشاهد أحد) إن نظرة واحدة من عيونها تذيب الحجر والبشر.
فهل يجد «كاف» طريقة للمرور من «باب العدالة»؟
هل يمتلك إرادته ويعرف طريقه وينتصر على خوفه وامتثاله؟
هل يستطيع أن يثبت براءته ويستعيد حياته؟
فكروا معه ومعى.. ونصحيتى المخلصة: لا تكتفوا بالتفكير السلبى ومحاولة رشوة الحارس حتى لا يضيع عمركم عبثا مثل «المواطن كاف».