تخيلته جالسًا معنا - بهدوئه المعروف عنه - ونحن نحتفل بآخر إبداعاته بقاعة الندوات بالمجلس الأعلى للثقافة.. وكان غالبًا ما يجلس بجوارى فى كل المناسبات الرسمية بحكم أننا رؤساء تحرير لأهم صحيفتين من صحف المعارضة.. عندما كانت هناك معارضة «لله فقط.. وللوطن» وليس لجمع الثروات بالملايين وسكن القصور.. وكنت دائمًا أتخيله - ربما لسبب ضخامة جسده - ثالث اثنين من عمالقة الصحافة، أولهما باشا الصحافة المصرية، وعندما نقول باشا الصحافة فنحن نقصد فكرى باشا أباظة، الذى استمر رئيسًا لتحرير المصور من أيام الملك فؤاد عام 1924.. إلى عهد عبد الناصر.. وثانيهما عميد الصحافة استاذنا مصطفى أمين رحم الله الثلاثة.
كانت المناسبة هى حفل توقيع آخر إبداعاته، وهو كتاب لم يكتب له أن يراه فى حياته.. فأصبحنا نحتفل به بعد رحيله.. هو كتاب اعترافات صحفية والذى حرصت الأسرة «الزوجة والابنة» مع الصديق عصام كامل رفيق رحلته فى «الأحرار» على إصداره وفاءً وإحياءً لذكراه.. وهنا ينطبق النص الدينى الشهير.. «وولد صالح يدعو له» والولد هنا هما السيدة قرينته نبيلة بدران ابنة واحد من أشهر المترجمين فى تاريخ الأدب والفكر العربى.. والابنة هبة قبضايا.. وليس أفضل من كتاب يتداوله الناس.. ولسنوات عديدة.
وكان صلاح قبضايا، الذى رفض أن يسبق اسمه على مقالاته وكتبه كلمة دكتور، على عكس من زور ودفع الآلاف ليسبق اسمه هذه الكلمة، كان صلاح يعرف أكثر مما يصرح به.. خصوصًا أنه كان أول محرر عسكرى فى تاريخ الصحافة الحديث.. ولكنه رغم أنه أصبح أول رئيس تحرير لجريدة معارضة أسبوعية إلا أنه كان يضع مصلحة البلاد العليا، فوق أى مصلحة.
والكتاب الذى تحملت الأسرة أعباء نفسية رهيبة.. ودارت الأسرة على أكثر من دار نشر.. ونحن الآن نخشى من انتهاء دور الكتاب الورقى.. كما نخشى على الصحف الورقية من نفس المصير.. ولذلك تحملت الأسرة الوفية الأعباء المالية كاملة.. ليخرج هذا الكتاب للناس.. فائدة ورحمة.
وإذا كان الراحل العزيز لم يشأ أن يصبح عنوان الكتاب صفة الذكريات أو المذكرات.. لأن كل من فعل ذلك جعل من نفسه نبيًا.. فإن هذا الكتاب يضم أسرارًا عديدة، رغم أننى أعلم معظم أسرار المؤلف الصديق.. وهو بحق يصلح ليكون كتابًا جامعيًا.. يدرسه وليس يقرؤه فقط - كل طلبة الإعلام والصحافة.. لأن مؤلفه وضع فيه - بكل صدق - كل خبرته الصحفية التى تزيد على نصف قرن.. بل وأعترف أننى وقد عشت وزاملت مؤلفه كنت أبحث عن إجابات عن حوادث كثيرة.. فوجدتها فى هذا الكتاب الرائع الذى لم اتركه إلا بعد أن فرغت من قراءته تمامًا.
ومن المؤكد أن معاركه الصحفية لم تقل عن معاركه خلال عمله محررًا عكسريًا وليس سرًا أن عرف أخبار الهزيمة قبل أى مدنى مصرى آخر عام 1967 بل وعندما أصيب بالرصاص وهو يغطى حرب اليمن الأولى.. وصلاح قبضايا كان من النجوم داخل الصحف المصرية، مدنية وعسكرية.. وكان أيضًا من الرعيل الأول للصحفيين المصريين الذين عملوا فى الصحافة فى أوروبا وأيضًا فى الخليج والدول العربية.. وكان نجمًا ساطعًا فى كل موقع أو معركة عمل فيها.
وكان صدور هذا الكتاب ودور رفيقة دربه ودور كريمته دافعًا لأن سألت زوجتى، وابنتى: هل أجد منكما مثل هذا الوفاء الذى قدمته أسرة صلاح قبضايا.. وعندى آلاف المقالات تصلح للعديد من الكتب.
حقًا كان يومًا من أيام الوفاء.. عاشته وعشناه مع أسرة الصديق الراحل.. صلاح قبضايا.